فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ

فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ

فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ

 لبنان اليوم -

فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ

بقلم:تركي الدخيل

والقَاضِي أبُو بكرٍ بن العَرَبي (468 - 543 هـ = 1076 - 1148 م)، هو محمدٌ بنُ عبدِ الله بن محمدٍ المعافري، ولد بإشبيلية، ورحلَ إلى المَشرقِ، فأخَذَ عنْ أئمَّتِهَا وعُلمائِهَا، وبلغَ الاجتِهادَ. وُلِّيَ قضاءَ مِصرَ ثمَّ إشبِيليةَ، وَمَاتَ ودُفِنَ بفاس. وَصَفَهُ ابنُ بشكوَال بأنَّه «الحافظُ المُستَبحِر، ختامُ عُلماءِ الأندلسِ وآخِرُ أئمَّتِها وحُفَّاظِها»، وَقَالَ عنه المقرِي في (نَفْحُ الطّيب): «عَلَمُ الأعلام، الطَّاهرُ الأثْواب، البَاهِرُ الأبْوَاب، الذي أنسَى ذكاءَ إياس، وتركَ التقليدَ للقِيَاس؛ وأنتجَ الفَرعَ من الأصْلِ، وَغَدَا في الإسْلَامِ أمْضَى منَ النَّصْل»، وقالَ عنه الحِجَارِيّ: «لَو لمْ يُنسب إلَى إشبيليةَ إِلَّا هذَا الإمَامُ الجَليلُ لَكَانَ لهَا بهِ من الفَخرِ مَا يرجِعُ عنه الطَّرفُ وهوَ كَلِيل»، وَفي (سِمْط الجُمَان)، أنَّهُ « بحرُ العُلوم، وإمامُ كلّ مَحفوظٍ ومعلوم».

صَنَّفَ ابنُ العَربي فِي مختلفِ الفُنونِ، وكانَ مُتَعَدِّدَ المَوَاهِبِ، مُتَنَوِّعَ الإبْدَاعِ، فَبلغَ شأواً فِي المَنزلَةِ العِلميَّةِ الرَّفِيعَة، وشَهِدَ لهُ أهلُ المَشرِقِ وَالمَغرِب، فِي آنٍ، بِعُلُوِّ كَعْبِهِ، وَتَنَوُّعِ مَناحِي مَبَالغِ عِلمِهِ، حيثُ ضَربَ فِي كُلّ فنٍّ بِسهمٍ وَافٍ.

وَالحقّ أن تَضَلُّعَهُ يجعلُنَا نَقُولُ إنَّهُ لم يَضرِبْ في كُلِّ فَنٍ بسهمٍ، بل ضربَ في كلِّ فنٍّ بِرُمْحٍ، والأمرُ كَمَا قَالَ القَاضِي، نفسُه، في نَظْمِه بيتَ شِعرٍ مُشتَهِرٍ، قَلَّ مَن يعرف أنَّهُ لأبِي بكرٍ بنِ العَرَبيّ:

فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ وَلَـكِنَّـهُ رُمْحٌ وَثَـانٍ وَثَـالِـثُ

«وهوَ الفقيهُ البصيرُ الذي جانَبَ التَّقليدَ والتَّزمُّتَ والعُكوفَ علَى ترديدِ كَلماتٍ بأعيانِهَا، المحدِّثُ المستنيرُ الذي يُعْمِلُ عقلَهُ وفكرَه فيما يقرأ أو يسمعُ، ويغوصُ على المعانِي الدِّقَاق المُسْتَكِنَّةِ في أطواءِ النَّصِّ الحديثيّ، المُفَسِّرُ المُقتَدِر الذي أعدّ العُدّة لعملِه في التَّفسير، من تضلُّع من لغةِ العربِ وأشعارِها وروائعِ نثرِها، الذي يمتازُ بإيجازِ اللفظِ وثراءِ المعنَى، الأديبُ الذي يغوص على المعنَى، ويفتنّ في التعبيرِ عنه واستخراجِ العبرةِ من مَطاويه، المُؤرخُ الذي يقارنُ بين الروايات، وَيَمِيزُ حقَّهَا من باطلِها، ولا يكتفي بإيرادِها ككثيرين، المُثقفُ الواسعُ الثقافةِ الذي لا يَقْصُرُ نَفْسَهُ على فنٍّ أو فنونٍ معدودة، وإنَّمَا يطوف بأرجائِها، ويقطفُ من ثمارِها، ما طابَ له التَّطْواف والقِطاف، المُتكلمُ الذي درسَ عيونَ كتبِ الكَلام، ونظرَ فيهَا نظراتٍ فاحصةً مستقلةً لا يعنيهَا إلا كشفُ الحقّ، ودحضُ الباطلِ الذي رانَ علَى كثيرٍ من أبحاثِ السَّابقين، واختيار الرَّأي النَّاضج الذي لا يتعارضُ مع حقائقِ الإِسلام»، كمَا كتبَ أستاذُ العلومِ الإسلامية بجامعةِ الجزائر، مُحمد السّليماني، الذِي حقَّق أكثرَ من كتابٍ للقاضي ابنِ العربي، رحمَهُ اللهُ، وباتَ من المختصّينَ في شَخصيةِ القاضِي وَعُلومِهِ وَمُصنَّفاتِه وفُنونِهِ.

في «أزهار الرّياضِ فِي أخبارِ القَاضِي عياض»، يقولُ المقرِي:

ومن صلابةِ الإمامِ أبي بكرٍ بنِ العَرَبيّ، أنَّه حَكَم في زَامِرٍ بثَقْبِ أشدَاقِهِ.

وَمنْ بديعِ نظمِهِ:

أَتَــتْــنِــي تُــؤنِّــبُــنــي بـالـبُـكَـا فــأهــلاً بــِهَــا وبـتَـأنـيـبـهَــا

تَـقـولُ وفـِي نـفـسِـهَا حـَسْــرَةٌ أتَـبـكِي بِــعـيـنٍ تـَرانِـي بـهَـا

فَقلتُ إذَا استَحْسَنَتْ غـيرَكمْ أَمَـرتُ جـفـونـِي بتعـذيبِـهَا

وَقالَ: دخلَ عليَّ ابنُ صارةَ، وبينَ يَدَيّ نارٌ قد علاهَا رَمادٌ، فقلتُ: لتقلْ فِي هذَا، فقالَ:

شَابَتْ نَوَاصِي النَّارِ بعدَ سَوَادِها وَتَسَتَّرَتْ عَنَّا بِثَوْبِ رَمَادِ

ثُمَّ قَالَ لِي ابنُ صارةَ: أَجِزْ. فقُلتُ:

شَابَتْ كَمَا شِـبْـنَـا وَزَالَ شَبَابُنَا فَـكَأَنَّـمَـا كُـنَّـا عَـلَـى مِـيْـعَـادِ

حكَى غيرُ واحدٍ أنَّ ابنَ العربيّ، بينما هو جالسٌ في مَحلِّ دَرْسِهِ، إذْ دخلَ شَابٌّ من المُلَثَّمِين وبيدِهِ رُمْحٌ، فَهَزَّهُ، فَقالَ القاضِي أبُو بَكرٍ:

يَهُزُّ عَلَيَّ الرُمْحَ ظَبْيٌ مُهَفَهَفُ لَـعُوْبٌ بِأَلْبَابِ البَرِيَّةِ عَابِثُ

فَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّـقَيْتُهُ وَلَـكِنَّـهُ رُمْحٌ وَثَـانٍ وَثَـالِـثُ

قَالَ أبُو عبدِ اللهِ، غفرَ اللهُ لهُ: وَمَنْ حَكَمَ في الزَّامِرِ بذاكَ الحُكمِ، يتعَذَّرُ عَلَيَّ فَهْمُ أَنْ يكونَ قَالَ شِعْرَهُ السَّابِق نَسِيْباً، فِي شَابٍّ مُلَثَّمٍ، والله أعلم

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ فَلَوْ كَانَ رُمْحاً وَاحِداً لَاتَّـقَيْتُهُ



GMT 17:06 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

«الانتقالي» فتح عشَّ الانفصاليين

GMT 17:05 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

تمنيات للجزائر

GMT 17:04 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

زيتونة فلسطينية تناجي ياسر عرفات

GMT 17:03 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

مخالب «داعش» ما زالت تخمش

GMT 17:02 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

خلوة صير بني ياس... التفكير الهادئ في زمن الاضطراب

GMT 17:01 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

«موجز القوة» ومستقبل العسكرية الأميركية

GMT 17:00 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

نظرية ماكس فيبر... وأسباب تفوّق الملَكية

GMT 16:59 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

الأيام الجهمة

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:05 2025 السبت ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الطيبة جنوبي لبنان
 لبنان اليوم - غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الطيبة جنوبي لبنان

GMT 10:52 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

مناخا جيد على الرغم من بعض المعاكسات

GMT 13:47 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 09:19 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

آبل تُطلق قريباً ميزة لهواتف آيفون

GMT 15:13 2022 السبت ,07 أيار / مايو

اتيكيت تقديم الطعام في المطاعم

GMT 10:51 2020 الأحد ,26 إبريل / نيسان

انضمام هند جاد لـ "راديو9090" خلال شهر رمضان

GMT 20:33 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 6,6 درجات يضرب غرب إندونيسيا

GMT 11:49 2017 الإثنين ,18 أيلول / سبتمبر

تعرف علي توقعات أحوال الطقس في الكويت الإثنين

GMT 18:15 2023 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

يوفنتوس أوقف مفاوضات تمديد عقد فلاهوفيتش

GMT 04:34 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

كشف أسرار جديدة ومميزة عن التيروصورات الطائرة

GMT 13:41 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

تغييرات مفاجئة تحدث لك خلال هذا الشهر

GMT 10:00 2019 الأربعاء ,22 أيار / مايو

ترامب في زيارة رسمية إلى أيرلندا للمرة الأولى
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon