(التاريخ يكتبه المنتصرون).. مقولة كثيرًا ما نرددها، ولكننا نعتقد أن الانتصار فقط هو الذى نراه ماثلًا أمامنا على الأرض بينما بزاوية، ما يعنى فى عمقه امتلاك القوة والقدرة.. هكذا إسرائيل فى حرب (6 أكتوبر) التى يطلقون عليها هناك (يوم الغفران)، لاقت هزيمتها فأفقدتها صوابها، كما قال الرئيس الراحل أنور السادات فى خطابه الشهير فى أعقاب تحقيق الانتصار التاريخى الذى استطاعت القوات المسلحة المصرية والسورية تحقيقه، وهو ما أسهب فيلم (جولدا) فى تقديمه بكل التنويعات التى ملأتنا بنشوة وعزة وافتخار.
إسرائيل فى وثائقها تعترف بانتصار الأيام الأولى، ولكنها تعتبر أن الثغرة التى اعترفت بها مصر تعد بالنسبة لهم انتصارًا موازيًا، وكأنها الجولة الثانية فى المعركة.
الفيلم البريطانى إخراج نيكولاس مارتن، الذى حمل اسم رئيسة الوزراء الأسبق (المرأة الحديدية)، عُرض فى قسم (البانوراما)، بطولة هيلين ميرين الحائزة على الأوسكار.. رؤية تحمل توقيع إسرائيل على حرب السادس من أكتوبر التى يريدون تزييفها.
الفيلم الروائى به مسحة تسجيلية توضح تفوق القوات المصرية والسورية، وتستمع إلى صوت الجنود المصريين وهم يهنئون أنفسهم وضحكاتهم تعلو، السيناريو قدم انهيار القيادة الإسرائيلية فى لحظات، وموشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى كان اقرب إلى مسخ لإنسان مهزوم رعديد منهار، كل القيادات العسكرية الإسرائيلية عاشت مرارة الهزيمة وتجرعت ويلاتها، ولهذا لجأ المخرج إلى التوثيق اليومى للأحداث، بين كل مشهد وآخر نرى تاريخ اليوم، حتى يقنعنا بأن تلك هى فقط الحقيقة.
الأحداث محدودة ما بين بيت (جولدا)، وغرفة العمليات العسكرية، وقليل من المشاهد الخارجية مثل ذهابها للمستشفى، وأيضا التحقيق معها فى أعقاب الحرب لمعرفة كل الملابسات.
لم تتمكن إسرائيل من تغيير التاريخ ليحيل هزيمتها، خاصة فى الأيام الستة الأولى، إلى انتصار.. ولكنها تعيد تحليل الثغرة وملابساتها، وهو كما هو واضح من كل التفاصيل المعلنة فى مصر أنها كانت محل خلاف بين القائد الأعلى أنور السادات ووزير الدفاع أحمد إسماعيل من ناحية، وقائد الأركان سعد الدين الشاذلى من ناحية أخرى، وهو خلاف يحسمه قطعا المتخصصون عسكريا، إلا أننا فعلا اعترفنا بتلك الثغرة التى منحت إسرائيل تفوقا مرحليا وجعلت سلاحها قادرًا على تهديد العمق المصرى.. ومع أغنيات النصر المتعددة التى بدأت بـ (على الربابة بغنى) لوردة وبليغ وعبدالرحيم منصور، قدم عبدالحليم حافظ أغنية حزينة كتبها أحمد شفيق كامل ولحنها كمال الطويل (خلى السلاح صاحى)، ولكنها عبّرت قطعً حتى فى إيقاعها الحزين عما حدث واقعيا، وهو ما اعتبرته إسرائيل انتصارا أعاد مجددا الثقة إليها، الدعاية الإسرائيلية لا تتوقف عن التفسير الخاطئ لما جرى واقعيا ومحدد فى وثائق القوات المسلحة المصرية التى قدمت أنبل وأروع انتصار تاريخى لها.
هل تمكنّا من التعبير السينمائى عن انتصارنا؟.. ما نتبادله فيما بيننا من أفلام الانتصار، مثل (الرصاصة لا تزال فى جيبى) وغيره، رغم سذاجتها السينمائية، إلا أنها محلية ولا يراها سوى المواطن المصرى، ولو اتسعت الدائرة ستقول إن بعض العرب أيضا يشاهدونها، ولكن لا يوجد ما هو أبعد من تلك الدائرة، فهى سينما محلية مقيدة داخل الحدود.
الشخصية المحورية جولدا مائير فى الفيلم نملك عنها فى ذاكرتنا صورة ذهنية سلبية لامرأة قبيحة الملامح، وهو ما لم يتجاوز عنه الفيلم الجديد أو يُجمّله، ولكن بحكم الزمن ملأت وجهها التجاعيد، إلا أنها على الجانب الآخر شديدة الذكاء، لها قدرة استثنائية على ضبط الانفعال، خفيفة الظل، كما أنها (ست بيت)، تجيد القيادة بكل تفاصيلها فهى ليست سيدة عسكرية إلا أنها استوعبت المفردات، كما أنها فرضت شخصيتها على المجلس الأعلى العسكرى الإسرائيلى، الذى تترأسه، وشاهدناهم فى أقصى لحظات الهزيمة، وامتلأ الفيلم بالتفاصيل.. مثلا عندما جاءت جولدا للاجتماع لم يقفوا لها احتراما كما يقضى البروتوكول، وبعد أن جلست وقفت مجددا لكى يقفوا جميعا، وكأنها تمنحهم درسا عمليا، استوعبوه فى كل اجتماعاتهم التالية.
السيناريو لم يغفل تدخل أمريكا الحاسم واتصال جولدا مع هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأسبق الذى أيقظته من نومه وجاء إليها فى المطار لتستقبله فى بيتها وتقدم له الحساء الذى صنعته بيديها كما أنها تصنع ( الكيك) فى بيتها، مدخنة بشراهة حتى وهى تخضع للعلاج فى المستشفى.
شعرت فى البداية بالسعادة وأنا أشاهد تبعات الانهيار على القيادات العسكرية، ولكنهم فى النهاية انتصروا لروايتهم التى تؤكد انقلاب موازين القوى.
هل نحن قدمنا رواية أخرى؟.. مع الأسف، هم قدموا الكثير بالسينما وأيضا بالكتب، منها فيلم (الملاك) عن البطل أشرف مروان الذى نعاه بعد رحيله الرئيس الأسبق حسنى مبارك وأقيمت له جنازة عسكرية، ولكن الحكاية التى صدّروها للعالم فى الفيلم هى أنه عميل للموساد.. ما الذى فعلناه نحن لتصحيح الصورة؟!.
أتذكر مع تداعيات عرض مسلسل (دموع فى عيون وقحة)، الذى اختار للبطل اسما حركيا (جمعة الشوان) واسمه الحقيقى (أحمد الهوان) الذى التقيته أثناء عرض المسلسل وكان يتمنى توثيق حياته واقعيا، ولكننا لم نقدم عنه سوى ادعائه الزواج من سعاد حسنى.. إسرائيل نفت عنه البطولة وهو ما تكرر مع (رأفت الهجان) (رفعت الجمال)، وأيضا تحدثنا أكثر عن علاقته النسائية وزيجاته السابقة، وسوف تلاحظ أن كاتب المسلسلين صالح مرسى يختار أسماء أبطاله وهى تحمل إيقاع موسيقى يشبه أسماءهم الحقيقية (الهوان) هو (الشوان)، و(الجمال) هو (الهجان).. كذّبت إسرائيل أحداث المسلسلين أيضا.
أين نحن فى مخاطبة العالم؟.. قدم المخرج شريف عرفة فيلما ممتعا قبل عامين (الممر) عن هزيمة 67، وننتظر «الممر الجزء الثانى» عن انتصار أكتوبر، فى هذا الفيلم قدمت الدولة كل الوثائق، وسمحت لشريف بقراءة كل التفاصيل، وهو ما أتمنى أن يتاح له عند تقديم الجزء الثانى.
هل هذا هو منتهى الطموح؟.. أينبغى التفكير فى تقديم فيلم قادر على العبور للشاطئ الآخر.. أقصد للعالم والمهرجانات ولا بأس من الاستعانة بنجم عالمى؟!.. أراها قضية أمن قومى.
قال لى عمر الشريف، الذى لعب دورا محوريا فى التمهيد لزيارة السادات للقدس عندما تواصل مع مناحم بيجين بناءً على تكليف من الرئيس السادات، أبلغه بيجين بأن السادات سيُستقبل فى إسرائيل وكأنه سيدنا عيسى عليه السلام. قال لى عمر إن السادات طلب منه أن يتولى الإشراف على فيلم عالمى يتناول انتصار أكتوبر، إلا أنه تراجع، أقصد عمر خوفًا من ألا يقدم فيلما يليق بالانتصار ويتلقى هو بمفرده تبعات الهزيمة الفنية.
أظن أنه حان الآن وقت تقديم هذا الفيلم العالمى، اليوم قبل الغد، أنهى المخرج البريطانى الفيلم بلقطات للرئيس السادات فى أمريكا مع جولدا مائير التى كانت قد غادرت الحكم ولكنها حرصت على لقائه، وتبادلا الحوار الضاحك، ثم ينتهى الفيلم بحمام السلام مذبوحًا على الأرض، وطبعًا لم يقل المخرج إن إسرائيل لا تترك فرصة إلا وتغتال الدماء الفلسطينية.. فهم حقًا قاتلو الحمام والسلام!!.