السودان فى مفترق الطرق

السودان فى مفترق الطرق

السودان فى مفترق الطرق

 لبنان اليوم -

السودان فى مفترق الطرق

مصطفى الفقي
بقلم : مصطفى الفقي

لن أكرر المقولات التقليدية من أن السودان امتداد استراتيجى لمصر، وأن مصر امتداد استراتيجى للسودان، فتلك حقيقة أكدها التاريخ وحكمتها الجغرافيا، كما لن أخوض فى حديث التوأمة وخصوصية العلاقة بين البلدين، فتلك أمور يعرفها الجميع منذ أن كان شعار وحدة وادى النيل أطروحة على ألسنة المصريين والسودانيين فى الشمال والجنوب، ولكن دعنا نعترف بأن الأوضاع قد تغيرت، وأن الأمور قد تبدلت، فالعلاقات بين البلدين كانت نموذجًا للصعود والهبوط وفقًا لطبيعة الحكم فى كل من القاهرة والخرطوم، وأتذكر الآن أن الإمام المهدى الكبير أبدى انزعاجه عند مقتل جوردون باشا الحاكم الإنجليزى للسودان، وقال المهدى إنه كان يتطلع إلى مقايضته بأحمد عرابى المصرى ليعود من منفاه فى مقابل ضمان سلامة جوردون، وفى ذلك رد تاريخى على ما درج عليه المؤرخون من القول بأن العلاقات بين مصر وحزب الأمة كانت دائمًا متوترة، فليس ذلك صحيحًا على إطلاقه، كما أن علاقة القاهرة بالختمية ومولانا الميرغنى وأولاده لم تكن ذات خصوصية مطلقة أيضًا، فمصر تنظر دائمًا إلى السودان كوحدة واحدة ولا تنحاز لحزب دون الآخر أو تكون مع فصيل ضد غيره، ولقد مرت العلاقات المصرية- السودانية فى العقود الأخيرة بمحطات ثلاث رئيسية، هى:

أولًا: انهيار شعار وحدة وادى النيل عندما تحول الحزب الاتحادى برئاسة إسماعيل الأزهرى إلى الدعوة لاستقلال السودان بديلًا عن الوحدة مع مصر، وذلك بعد ثورة يوليو عام 1952 وسقوط تاج ملك مصر والسودان وشعور السودانيين بأن مصر تمضى فى طريق جديد لا تبدو ملامحه واضحة خصوصًا فى ظل الصراع على السلطة بين قائد الثورة عبدالناصر ونجيب الأب الروحى لها، والكل يذكر أن اتجاه مصر إلى المشرق العربى جاء تلقائيًا على حساب نظرتها إلى الجنوب وتمسكها بشعار وحدة وادى النيل.

.. وبلغت العلاقات المصرية- السودانية بعد الاستقلال درجة من الارتفاع والانخفاض فى عهود عبدالله خليل وإبراهيم عبود، كما لعبت شخصية ذات خصوصية فى تاريخ السودان الحديث، وأعنى بها السيد الصادق المهدى، الذى تربطنى به صداقة طويلة، لأنه فى ظنى كان النموذج الأفضل لقيادة السودان المستقل بحكم علمه وثقافته وفهمه العميق للسودان ومصر معًا، فضلًا عن مكانته الدينية وزعامته التاريخية.

ثانيًا: إن مجىء جعفر نميرى إلى الحكم يمثل فى ظنى أفضل فترات العلاقة بين الخرطوم والقاهرة، فهو الذى رفض أن يقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر وفقًا لقرار القمة العربية بعد توقيع مصر معاهدة السلام فى 26 مارس عام 1979، وهو الذى تعايش مع عبدالناصر والسادات ومبارك حتى سقط نظامه بفعل حركة النقابات وقوى المجتمع المدنى السودانى التى أطاحت به، فعاش لاجئًا سياسيًا فى العاصمة المصرية التى أكرمت وفادته حتى رحيله، ولقد اقتربت منه سنوات منفاه فى القاهرة واستمعت منه إلى تفاصيل كاملة عن مسرح الحياة السودانية من وجهة نظره، وتعرضت فى حديثى معه إلى مسألة تهجير يهود الفلاشا، وعن دوره فى تلك العملية الشهيرة، وتذاكرت معه أزلية العلاقة بين القطرين، وكيف أن مصر لم تجد أفضل من السودان لاستقبال طلاب كلياتها العسكرية فى أعقاب نكسة عام 1967، وذكرته بأن الشعب السودانى الذى خرج فى الخرطوم لتحية عبدالناصر هو الذى أزال غشاوة النكسة وأعاد الثقة للقيادة التى كانت تعانى مرارة الهزيمة.

ثالثًا: إن ما يسمى ثورة الإنقاذ الوطنى عام 1989، المتمثلة فى الانقلاب العسكرى الذى قاده رهط من الضباط السودانيين المتأثرين بفكر الجبهة الإسلامية ومبادئ الإخوان المسلمين مع بعض التأثيرات البعثية، وهو انقلاب جرى بقيادة عمر البشير مستندًا إلى فكر حسن الترابى ودوره المعروف فى التحفظ تجاه السياسة المصرية عمومًا فى كل عهودها، وقد كان ذلك الانقلاب نقطة تحول واضحة فى تأكيد عداء كامل تجاه مصر والسعى لتقليص مظاهر وجودها فى القطر السودانى، بدءًا من جامعة القاهرة فرع الخرطوم مرورًا باستراحات الرى وصولًا إلى كل المظاهر التاريخية الباقية للعلاقة الوثيقة بين البلدين، كما اتخذ البشير مواقف إقليمية ودولية لا تتماشى مع السياق التاريخى لما نطلق عليه الروابط الأزلية بين البلدين، ودخل فى محاور معادية للقاهرة واستغل النزاع الحدودى فى مثلث حلايب وشلاتين ليجعل من ذلك قميص عثمان الذى يرتديه كلما شاء سعيًا لتشويه صورة مصر وتدمير الأسس الراسخة للعلاقات بين شطرى الوادى.

وعندما سقط نظام البشير الذى قسم السودان وأذكى كل النزعات العرقية والقبلية والجهوية تنفس السودان الصعداء فى ظل قيادة جديدة بدأت تعيد النظر فى العلاقات مع مصر انطلاقًا من مصادرها الإيجابية بعيدا عن الحساسيات الموروثة وبقايا السياسات الاستعمارية لكى ينطلق الشعبان فى ندية وتواصل من أجل مستقبل أفضل لهما وللمنطقة كلها، ولقد انعكس ذلك بالضرورة على الموقف السودانى فى مفاوضات سد النهضة وأصبحنا نشعر فى القاهرة بأن الاعتدال والوقوف على أرض وطنية سوف يكون هو سمة الحكم الجديد، واضعين فى الاعتبار أن العلاقات بين الشعبين كانت ولاتزال عميقة الجذور ولن يفرط فيها أحدهما، كما أننا لا يمكن أن نبدأ من جديد أو نكون فى مفترق الطرق

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان فى مفترق الطرق السودان فى مفترق الطرق



GMT 19:47 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

«متعلّمة»

GMT 19:44 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي.. آلة الزيف الانتخابي

GMT 19:39 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الأطفال والإدمان التكنولوجي المسكوت عنه

GMT 19:35 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

عقارات بني أسد... وهمسات التاريخ

GMT 19:29 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

للعبادة معنى أشمل

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 23:51 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
 لبنان اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 21:45 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 20:40 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 14:05 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 13:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبشرك هذا اليوم بأخبار مفرحة ومفيدة جداً

GMT 21:09 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 20:21 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 15:12 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

لا رغبة لك في مضايقة الآخرين

GMT 16:44 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

المكاسب المالية تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 23:19 2023 الثلاثاء ,09 أيار / مايو

موضة المجوهرات الصيفية هذا الموسم

GMT 21:17 2020 السبت ,26 كانون الأول / ديسمبر

مكياج عروس وردي مميز لعروس 2021

GMT 19:41 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

وزير الرياضة المصري يستقبل رئيس نادي الفروسية

GMT 15:12 2019 الأربعاء ,06 شباط / فبراير

مشاركة 14 مصارعا جزائريّا في دورة باريس الدولية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon