حيرة الولد بهاء

حيرة الولد بهاء

حيرة الولد بهاء

 لبنان اليوم -

حيرة الولد بهاء

حسن البطل
بقلم : حسن البطل

كبر بهاء 11 سنة. عندما كان له من العمر ست سنوات، كنتُ في أيلول 2001 ضيفاً على بيت والده. عمر بهاء الآن 18 سنة.
***

عذبني بهاء بن مالك بن حنيحن، الحلحولي الصغير. وسنُ النوم في عينيه، وفي يده كباية الحليب، أخذنا، والده مالك: طبيب التشريح الشرعي، و»عمّو» (أنا) و»عمّو» خالد درويش صديق أبيه. أخذنا ابن السادسة من جلال المشهد بين آخر بيوت حلحول، وتلة بلدة بيت أمّر، ومن طقس قهوة الصباح أخذنا.

وسنُ الصباح يطير من عيني بهاء، ربما كما كانت تطير طيور الرخ الأسطورية، أو طيور الديناصور: تتدحرج بأقدامها على سفح. بيده كأس الحليب وعلى ظهره حقيبة تلميذ الصف الأول.. ولا يمنحنا ابن السادسة ابتسامة ملائكية لابن الرابعة. لماذا؟ هل نام على «كابوس» بعبع المجنزرة قدام البيت؟

مع سن دخول المدرسة، يبدأ سن تسقيط أسنان الحليب. عيون الأطفال صريحة.. وخجل ابتسامتهم فطري، كأن سقوط السن الأولى «كارثة» أو «فضيحة».
كارثة الطفل بهاء أن فك الحرف، على سبورة الصف الأول، ودفتر أول، وقلم أول، تهون أمام هذا «الطلسم»: لماذا الجنود اليهود - وبين بيت أبيه وبيت عمه المسافر «شبك» من نباتات الورود ثلاثة أمتار - يضحكون له.
في آخر الليل، قال لنا طبيب التشريح، الذي عرفناه طالب طب في فارنا، أن طفله البكر يعاني عوارض انفصام في الشخصية: في المدرسة صورة محمد الدرّة، وفي البيت يلقون عليه تحية الصباح.
ببساطة، جاء الجنود، قبل أن يكتمل أسبوع أول في صف بهاء الأول، واحتلوا بيت عمه، لأن موقعه «إستراتيجي» دون أن يأبهوا إلى أن هذه الجيرة ستجعل بهاء وأخته الأكبر منه بعامين، يعانيان خللاً طفولياً في لبناته «الإستراتيجية» الأولى: الجار-العدو، علم فلسطين في باحة المدرسة، وعلم إسرائيل على سارية طويلة يلقي بظلاله على حديقة من عشب أخضر وورود جميلة.. يذهب، كل يوم، إلى الحرية ويعود إلى نير الاحتلال؟!
بين آخر بيت في حلحول (منطقة «جيم») وتلة بلدة «بيت أمّر» واد عريض، تحتله كل صباح «غطيطة» بيضاء إلهية النقاء، ثم تصير رغوة حلاقة الصباح على وجه «أبو بهاء» مثلاً.
حلحول أعلى من الخليل؛ وبيت د. مالك هو الأعلى في حلحول. لهذا احتل الجنود البيت.
آخر الليل، حضّرت نفسي لـ «محاضرة» ألقيها على الطفل بهاء، شرط أن يمنحني، أولاً، ابتسامة أسنان الحليب:
اسمع يا ولد: عندما سقط سنّك رماه أبوك في الوادي. شوف الغيمة قدامك.. تحتها شجرة أسنان صغيرة. ضحك بهاء وبانت سنه الساقطة.
اسمع يا ولد: الناس ناس. الناس الصغار، مثلك في الصف، يتعاركون على قلم رصاص. الناس الكبار يتعاركون على احتلال بيت عمك. بيت زائد بيت تصير بلداً. بلد زائد بلد تصير بلاداً. فلسطين بلادنا ولّا بلاد اليهود..؟
جسر من الكلمات لا يصنع جسراً بين الواقع والخيال، مثل غمامة بيضاء بين تلة آخر بيت في حلحول، وأول بيوت بلدة «بيت أمّر». جسر من الكلمات لا يصنع جسراً بين صورة محمد الدرة في الصف، وصورة الجنود الجيران.
اسمع يا ولد: إذا قال لك أولاد المدرسة: إنك «ولد جبان» فلا تصدق. إذا عيّروك أن «أبوك عميل» لأنه يرد تحية الصباح من الجنود، عنك وعنه، بمثلها.. فلا تصدق.
آنذاك، فقط، طار أثر النوم من عيني الولد بهاء، وحلقت الحيرة بجناحين ثقيلين من على صفحة وجهه الملائكي.. وتبرع لنا بآخر قطرات الحليب في فنجان القهوة الثالث.
اسمع يا ولد: القهوة تختلط بالحليب، والناس يختلطون بالناس، لكن الحرية لا تختلط بالاحتلال.
***
عذبني بهاء بن مالك الحلحولي الصغير أكثر مما عذبتني الرحلة الشاقة من أبو ديس إلى حلحول. النقش على حجر أهون من جعل الاحتلال قصة من قصص الأطفال.
هؤلاء الجنود - الجيران يذكرون - مثل بهاء - يومهم الدراسي الأول، سنهم الأولى التي سقطت.. لكن موقعاً إستراتيجيا مؤقتاً وعابراً سيترك أثره الإستراتيجي على نفسية الطفل بهاء. هذه تجربة لم يمروا بها.
مع من يلعب بهاء الطابة في فناء الدار؟ مع أخيه الرضيع؟ مع أخته الأكبر التي تحب «نط الحبلة» وليس الركض وراء الكرة. الكرة التي طارت، مثل حجر، إلى فناء بيت العم الغائب حيث الجنود، فهرب الولد إلى المطبخ حيث أمه.
.. وقبل أن يعود الأب الطبيب ويستعيد الكرة، كانت قد عادت إلى فناء الدار. أعادها الجنود، مسببين للولد بهاء حيرة جديدة.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حيرة الولد بهاء حيرة الولد بهاء



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:46 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الحمل الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 22:52 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الثاني 2020

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 19:30 2022 السبت ,07 أيار / مايو

حقائب يد صيفية موضة هذا الموسم

GMT 20:40 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

اتيكيت الأناقة عند النساء

GMT 20:18 2022 الثلاثاء ,10 أيار / مايو

أفكار لتنسيق الجينز مع البلوزات لحفلات الصيف

GMT 05:22 2022 الأحد ,03 تموز / يوليو

نصائح لاختيار أحذية الـ Pumps بشكل صحيح

GMT 13:22 2022 الأحد ,13 شباط / فبراير

مكياج خفيف وناعم للمناسبات في المنزل

GMT 12:49 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

أنواع من الفواكه تحتوي على نسبة عالية من البروتين

GMT 12:29 2024 السبت ,13 إبريل / نيسان

أقوى اتجاهات الموضة لخريف وشتاء 2024-2025

GMT 08:43 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

موديلات حقائب ربيع وصيف 2023

GMT 12:48 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب السعودي يتقدم 3 مراكز في تصنيف فيفا
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon