بلاد علي البزّال

بلاد علي البزّال

بلاد علي البزّال

 لبنان اليوم -

بلاد علي البزّال

غسان شربل

عشية سفري إلى بيروت شاهدتُ على إحدى المحطات تقريراً موجعاً. جالت المراسلة على خيام أهالي العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى جبهة «النصرة» وتنظيم «داعش». توقَّفَتْ قرب خيمة أطلّت منها امرأة يقطر الحزن من ملامحها. وجه معجون بالتوتر والخوف. تحدثت المرأة كأنها تشم رائحة دم ابنها الدركي علي البزّال الذي هددت «النصرة» بإعدامه. تضرّعت كي لا تقترب ساعة تلقيها النبأ.

غداة وصولي إلى بيروت قلتُ أزور المخيم وهذه المرأة تحديداً. على باب الخيمة وقفَتْ والدة علي البزّال وزوجته وشقيقته. وجوه اعتصرها الأسى وجفون أثقلها السهر الطويل. وخيمة حزينة تذكّر بأن الوطن لم يعد يشكّل خيمة لأبنائه.

تحدّثت والدة البزّال بطريقة من يسابق الوقت ويخشى نفاده. حرّكت يديها كمن يحاول دفع القدر. تمنّت لو أنني أحمل إليها خبراً ساراً أو مطمئناً. لكن الزمن ليس زمن هذا النوع من الأخبار. إنها والدة أسير في بلد أسير.

فتحت يديها على شكل سؤال. سألَتْ: أين الوسطاء؟ أين الحكومة؟ أين الضمير؟ أين الإنسانية؟ وكررت: أين الدولة؟ سَخِرَت من القول إن السلطات تستجمع أوراق الضغط لإنجاح المفاوضات. سَخِرتْ من الذين يعارضون المقايضة مع الإرهابيين أو يتسببون في تأخيرها. ردَّدَت بحرقة: «أريد ابني». ولم يغب عن بالها أن تطالب بإطلاق رفاقه.

دمعة صغيرة جالت في العينين الكئيبتين. نضب الدمع من فرط ما بكت. حكت لنا عن عذابات زوجة علي وشقيقته منذ اعتقاله، خصوصاً بعد التهديد بإعدامه. حاولتُ تحريضها على إبقاء باب الرجاء والأمل مفتوحاً. كانت تهزّ رأسها. أتلفَت الأيام أعصابها والتهمت الصبر. «اريد ابني»، «أين الوسيط القطري؟»، و «ماذا تنتظر خلية الأزمة (الحكومية)». «فليتركوا المكان لغيرهم إذا كانوا عاجزين»، و «أريد ابني». ضربت كفاً بكف اعتراضاً على الظلم الفادح والعجز الفادح. كأن «النصرة» أعدمتها قبل إعدام ابنها.

ضربت صدرها براحتيها. تصوّرت عذابات علي في قبضة محتجزيه. تصوّرت شبابه المكسور والدم يتصبب من عنفوانه. تصوّرته موثقاً ومهاناً. يموت حنيناً إلى طفلته الصغيرة المريضة، وإلى زوجته وشقيقته ووالديه. سألناها إن كانت تبلّغت جديداً مطمئناً فردّت بالنفي وتغطت بصمت من ينكسر. أضفت بضع عبارات مواساة فاشلة. وغادرنا الخيمة والمخيم.

كَسَرَ الحوار مع والدة علي البزّال قلبي. ما هذا الظلم؟ وما هذا الاحتقار؟ مسلّحون ينتهكون حدود بلد اسمه لبنان يفترض أن يكون دولة ذات سيادة. يقاتلون الجيش ويخطفون عسكريين وينسحبون إلى المغاور. يطالبون بإطلاق مرتكبين وحين تمتنع الحكومة يطلقون النار على رأس رهينة أو يقطعون رأس أسير.

تقلّب الحكومة الهشّة الجمر بين يديها. تعيش على توقيت الإرهابيين. تخاف على العسكريين، وتخاف من الثمن المطلوب لاستعادتهم، وتخاف من تكرار الخطف إذا حصل الخاطفون على مكافأة لجريمتهم. وتخاف الحكومة الهشة على وحدتها، وتخاف من التباسات مواقف بعض أعضائها ومن جماعة «المقايضة ولكن».

الظلاميون قساة وبارعون. يعزفون على التمزقات اللبنانية بوحشية ومهارة. هذا محتجز شيعي وذاك سنّي. هذا محتجز مسيحي وذاك درزي. يتلاعبون بمشاعر أهالي المحتجزين ويتلاعبون بمشاعر المناطق التي ينتمون إليها.

أزمة العسكريين المحتجزين جزء من مأساة سقوط لبنان في مستنقع التفكك السوري. قبل أن يقطع الظلاميون رأس جندي قطع السياسيون رأس الجمهورية. ما هذا الانحدار؟ ما هذا الانحطاط؟ ترجع جثث الجنود ولا ينزل النواب إلى البرلمان لانتخاب رئيس، ولا يشكلون حكومة أقطاب أو ما يشبهها ليدعم الشعب الجيش في معركته ضد الإرهاب. ما هذه الشراهة؟ ما هذا الانحطاط؟

لم تخطئ والدة علي البزّال في الحساب. جاءها الخبر عنيفاً وقاهراً ومدمّراً. تلوّت تحت ضربة الزلزال. لا ينقص من حُرقتها نعتها بـ «أم الشهيد». كانت تشتهي أن يرجع لتشم فيه رائحة طفولته. نجح الإرهابيون في التلاعب باللبنانيين. صرخات الثأر تنذر بإعدامات كثيرة، تُنذر بتحريك البراكين المذهبية. ما أقسى أن تزور بلاد علي البزّال، وأن تشهد من قرب كل هذا الظلم وكل هذا الظلام.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بلاد علي البزّال بلاد علي البزّال



GMT 20:03 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

دومينو نعمت شفيق

GMT 20:01 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

معايير عمل البلدية

GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 19:29 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 19:26 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 19:23 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 14:05 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 08:54 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

جينيسيس تكشف عن G70" Shooting Brake" رسمياً

GMT 00:08 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

وزارة الصحة التونسية توقف نشاط الرابطة الأولى

GMT 21:09 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 23:44 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

مارادونا وكوبي براينت أبرز نجوم الرياضة المفارقين في 2020

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 11:03 2022 الأحد ,01 أيار / مايو

إتيكيت طلب يد العروس

GMT 10:04 2021 الإثنين ,10 أيار / مايو

الهلال السعودي يحتفل بمئوية جوميز

GMT 18:43 2022 الإثنين ,09 أيار / مايو

أفضل النظارات الشمسية المناسبة لشكل وجهك
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon