ما بعد بيان الرياض

ما بعد بيان الرياض

ما بعد بيان الرياض

 لبنان اليوم -

ما بعد بيان الرياض

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

لا يكفي وقف إطلاق النار لإطفاء الحريق. لا بد من التصدي للظلم الذي تسبب في اشتعاله. التهرب من مواجهة جوهر المشكلة يجعل وقف النار مجرد هدنة ويؤسس لحريق أوسع. وعمر الظلم هنا يزيد على سبعة عقود. منذ النكبة وجمر النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي مقيم. يكمن ويستفيق. لا يموت الجمر حين يرفض الظلم أن يموت. أجيال وُلدت في ظل الاحتلال أو تحت أوجاع المخيمات. قُتل كثيرون لكن الحلم تمرد على قاتليه.

لا يمكن ضمان استقرار شعب على حساب اقتلاع شعب. كل أنواع المساحيق لا تخفي بشاعة الاحتلال. ولا يمكن تكريس الظلم بالتدمير والتجويع وقطع الكهرباء والمياه والإنترنت، وتحويل المستشفيات مقابرَ جماعية للطاقم الطبي والمرضى واللاجئين. ولا يحق للغرب أن ينتفض دفاعاً عن شبر أو طفل في أوكرانيا ويغمض عينيه عن نهر الأطفال القتلى في فلسطين. ازدواجية المعايير لا تلجم النار بل تصب الزيت عليها. للفلسطيني كما لأي إنسان في العالم الحق في العيش الآمن في دولته. لا يمكن اختتام الجريمة بمعاقبة القتيل.

الدولة الفلسطينية حاجة وطنية وإنسانية للفلسطينيين. حق بديهي. غيابه يشكل لطخة على ضمير العالم. يرفع اتهاماً صارخاً بحق الدول النائمة على هيبة الأساطيل وحق اعتقال مجلس الأمن بسيف «الفيتو». الدولة الفلسطينية حاجة عربية أيضاً؛ لأن العرب دفعوا ثمناً باهظاً لهذا النزاع المرير سواء حين انخرطوا فيه أو حين أفلت هذا الملف من أيديهم. غياب الدولة الفلسطينية سهّل زعزعة استقرار خرائط وحرمان دول من فرصة التقاط أنفاسها. والدولة الفلسطينية حاجة إقليمية ودولية؛ لأن دول المنطقة أحوج ما تكون للانصراف إلى معركة التنمية واللحاق بالثورة التكنولوجية ومكافحة البطالة والفقر والأفكار المعتمة الانتحارية. وحاجة دولية؛ لأن مشاهد البطش والظلم والقهر ولّادة للعنف والتطرف والإرهاب.

لا يحق لمجلس الأمن أن يبقى مقيماً تحت ركام هيبته. وأن «يعاقب» الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لمجاهرتِه بغضبه بعد رؤية أهرامات الجثث الصغيرة وبحيرات الدم. ولا يحق لـ«القوة العظمى الوحيدة» التي لا تكفّ عن إعطاء الدروس في حقوق الإنسان، أن تغطي «أم المذابح» بـ«حق الدفاع عن النفس». ولا يحق لضمير الغرب أن يجبنَ حتى الاستقالة من موجبات القانون الدولي والإنساني. وإذا كان يرفض قيام روسيا باقتطاع أجزاء من الأراضي الأوكرانية، فكيف يصمت أو يُسهّل بقاء دولة فوق عظام أصحاب الأرض؟!

جربت إسرائيل كثيراً إطفاء الجمر بمحاولة شطب صوت المظلوم. جربت الاحتلالات والتوغلات وحمم الطائرات وجنازير الدبابات والاغتيالات. طاردت ياسر عرفات وحاصرته فكمن الجمر ليعاود الاشتعال لاحقاً. اغتالت خليل الوزير (أبو جهاد) أبا الانتفاضة فنام الجمر ليستيقظ لاحقاً. اغتالت أحمد ياسين وعدداً من رفاقه ورفض الجمر أن يموت. لا يحق للعالم الذي استفظع التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وأهوال الطلاق اليوغوسلافي والمقتلة المروعة في رواندا، أن يغمض عينيه عن مذبحة العصر في فلسطين.

راودتني هذه الأفكار وأنا أتابع في الرياض البيان الختامي للقمة العربية - الإسلامية الاستثنائية. كان البيان قوياً بمفرداته وروحيته ومخاطبته وتصوره لإطفاء الحريق. نكهة الغضب والاحتجاج على الظلم وازدواجية المعايير والحرب الشعواء التي شنها الاحتلال، صيغت بلغة مسؤولة تحت سقف القانون الدولي وموجبات السلام الحقيقي. طالب البيان مجلس الأمن بإنقاذ دوره وصورته والاضطلاع بالمسؤوليات التي كانت وراء قيامه. طالب باحترام القانون الدولي وثقة الناس بالحق والقانون والعدالة والكرامة الإنسانية. وطالب الدول القادرة على الضغط على إسرائيل بعدم التطلي تحت لافتة العبارات العمومية والانتظار والانحيازات القديمة.

أظهرت مداولات القمة أن قادة العالم العربي والإسلامي لم يتوافدوا إلى الرياض لإصدار بيان تقليدي من قماشة رفع العتب. ساد شعور واضح بهول ما يجري وخطورة استمراره. جمر النزاع قابل للتطاير إلى جبهات أخرى. واندلاع حرب واسعة يعني إدخال المنطقة مجدداً في دورة أهوال لن تبقى الدول الكبرى خارجها، خصوصاً أن البيت الدولي يعيش أسوأ أيامه منذ أن قرر الرئيس فلاديمير بوتين «استعادة حقوقه» بأيدي «الجيش الأحمر». دعا بيان القمة إلى وقف فوري للنار وكسر الحصار، ودعا في الوقت نفسه إلى ضمان عدم تكرار المأساة، وذلك من طريق فتح باب الحل الشامل وعلى قاعدة حل الدولتين، مذكّراً بالمبادرة العربية للسلام.

صحيح أن الدول التي اجتمعت في الرياض لا تملك سياسات متطابقة في الملفات الإقليمية والدولية. فلكل دولة من الدول مصالح وحسابات وتحالفات وصداقات. وهي تنظر إلى الأزمات من زوايا مختلفة بحكم ظروفها وتجاربها. لكن الواضح أن هذه الدول تتفق على عناوين عريضة أهمها الدعوة إلى وقف فوري للحرب، والسعي إلى بناء السلام على قاعدة العدل وإنهاء الاحتلال والظلم. وتعتقد الأكثرية الساحقة من الدول المشاركة أن لا مخرج من النزاع المزمن إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة.

لا مبالغة في القول إن العالم العربي والإسلامي لم يتمكن سابقاً من الحضور على المسرح الدولي كلاعب فاعل لأسباب كثيرة. هذا لا يصدق في الحاضر وفي المشهد الدولي الذي يتشكل. لدى العالم العربي والإسلامي شعور متزايد بامتلاكه المواصفات الواجب توافرها في لاعب قادر على الدفاع عن مصالحه. للعالم العربي ثقل وقدرات وثروات، وللغرب والدول الكبرى فيه مصالح حيوية. ولبعض دول هذا العالم ثقل متزايد على الصعيدين الإقليمي والدولي، وصولاً إلى حضور فاعل في «مجموعة العشرين». وربما لهذا السبب تحركت الرياض لعقد القمة المشتركة، وبهدف مخاطبة العالم بلغة موحدة وتعابير واضحة.

كان بيان قمة الرياض مهماً بعباراته ورسائله. الأهم من البيان هو التحرك الذي ستقوم به اللجنة التي شُكلت للاتصال بالدول الكبرى لاستجماع إرادة دولية تفرض إنهاء النزاع على قاعدة حل الدولتين، بدلاً من الاكتفاء بوقف النار وتوزيع الضمادات في انتظار جولة مقبلة أشد هولاً.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما بعد بيان الرياض ما بعد بيان الرياض



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 20:45 2023 الثلاثاء ,11 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 11 أبريل / نيسان 2023

GMT 17:08 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

ربيع سفياني يكشف أسباب تألقه مع التعاون

GMT 19:29 2018 الخميس ,20 كانون الأول / ديسمبر

نائب رئيس الشباب أحمد العقيل يستقيل من منصبه

GMT 18:07 2022 الأربعاء ,01 حزيران / يونيو

ساعات أنيقة باللون الأزرق الداكن

GMT 22:12 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الجدي الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:14 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 06:04 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

للمحجبات طرق تنسيق الجيليه المفتوحة لضمان اطلالة أنحف

GMT 03:49 2024 الأحد ,17 آذار/ مارس

"Dior" تجمع عاشقات الموضة في حفل سحور بدبي

GMT 10:32 2021 الأربعاء ,11 آب / أغسطس

جرعة أمل من مهرجانات بعلبك “SHINE ON LEBANON”

GMT 09:48 2022 الأحد ,17 تموز / يوليو

تيك توك ينهى الجدل ويعيد هيكلة قسم السلامة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon