إقليم اللحم المشوي

إقليم اللحم المشوي

إقليم اللحم المشوي

 لبنان اليوم -

إقليم اللحم المشوي

غسان شربل

طرقت جارتنا الجديدة الباب في أول السهرة. قالت إن توقعات الطقس تشير إلى أن يوم السبت سيكون مشمساً. وإن ابنها المراهق يصر على دعوة بعض رفاقه إلى الغداء. وإن المدعوين يفضلون التحلق في الحديقة حول اللحم المشوي. وبجدية مفرطة كشفت أنها تعرف أن الدخان يمكن أن يتسلل إلى حديقتنا. وإن رائحة اللحم المشوي قد تتبعه. وإنها جاءت لاستئذاننا. وأبدت استعدادها لإجراء المناسبة داخل بيتها إذا كنا نعارض التعرض للدخان والرائحة. خشيت في البداية أن تكون الجارة تتعمد السخرية مني. وأن تكون عرفت إنني عربي وصحافي وأرادت تذكيري بالفارق بين ثقافتين وعالمين. لكن لم تظهر عليها علامات الخبث. أبلغتها أن طلبها يسعدنا لأننا نحن أيضاً ننتظر الأيام القليلة المشمسة في لندن لإقامة دعوة من هذا النوع. شعرت بالاستفزاز. كيف أخشى الدخان ورائحة اللحم المشوي أنا الوافد من إقليم اللحم المشوي. اللحم اللبناني. والسوري. والعراقي. واليمني. والصومالي. والسوداني. ثم إن مهنتي تلزمني بمتابعة «إنجازات» الأفران المفتوحة على امتداد المنطقة. ولطالما نمت في تلك العواصم التي لا ترى غير أسرّة الجمر مكاناً يليق بالمعارضين أو المعترضين. كيف أخاف أنا الوافد من إقليم «داعش» و»النصرة» و»الشبيحة» وسائر الجيوش المذهبية الضريرة. مسكينة لأنها لا تعرف إنني أغادر مكتب الصحيفة كل مساء ورائحة اللحم المشوي حاضرة في ثيابي وشعر رأسي. وإنني قبل ذهاب العدد إلى المطابع اطمئن إلى عدد المواطنين الذين تم شيهم في ذلك النهار. أحصيهم وأفرزهم وأوزعهم في مجموعات. لا مكان في الصفحة الأولى لأي حفلة شواء تقل عن ثلاثين قتيلاً. الحفلات المتواضعة تقيم في الصفحات الداخلية. الصفحة الأولى فندق من خمس نجوم. إنها مخصصة لحفلات الشواء البارزة. أقصد بالبارزة أن يكون عدد الضحايا مرتفعاً. وأن يضم عدداً غير قليل من النساء والأطفال. وأن يكون الشواء استهدف مسجداً أو حسينية أو كنيسة أو مدرسة أو سرادق عزاء أو تظاهرة احتجاج. أحسد جارتنا البريئة. لا علاقة لها بإقليم اللحم المشوي. ببغداد والأنبار والفلوجة. بحلب وإدلب ويبرود. بالهرمل وبيروت وصيدا. بصنعاء والجوف وصعدة. بالقاهرة وسيناء. بطرابلس وبنغازي. بمقديشو. بجوبا. إقليم اللحم المشوي. السلطات تعشق اللحم المشوي. تعتبره إنجازاً وطنياً وجزءاً لا يتجزأ من الخطة الخمسية. ولائم اللحم المشوي تضمن الاستقرار والسيادة والعزّة وتغلق الثغرات التي يتهيأ العدو للتسرب منها إلى النسيج الوطني المتلاحم. المقاتلون الجوالون يعشقون اللحم المشوي. طريقتهم في تحضيره تختلف عن أسلوب السلطة. يفضّلون العمليات الانتحارية. السرعة في إنجاز الوليمة. ولا يرف لهم جفن أمام تطاير الأشلاء. والأطراف المحترقة. عشّاق اللحم المشوي لا يردعهم عن الولائم رادع. يحرقون القانون الدولي ويحتقرون الحدود الدولية. يتسلّل المقاتل الجوال إلى بلد ليس بلده ويعطي نفسه حق شي المواطنين. يشوي نفسه ويشوي الآخرين. هذا مجاهد نرويجي. وذاك مجاهد ألماني. وثالث فرنسي. وتفيد الأخبار بأن المجاهدين الوافدين من بلدان أوروبية هم الأكثر حماسة وفتكاً. رائحة اللحم المشوي تبدأ من الكتب الدراسية والمناهج. لا مكان للآخر بيننا غير أن نمدده على الجمر. الرائحة نفسها تتصبّب من معظم الشاشات. دكاترة الكراهية يشوون عقول المشاهدين. رائحة الشواء تنبعث من مدرسة شطب الآخر. لا مكان عندنا لمن لا تطابق معه. نقتله أو يقتلنا. أخطر ما في الأفران الجوّالة في ما كان يدعى الوطن العربي ارتفاع مخزون الحطب لديها. إننا في بدايات نزاعات طويلة. أخطر من كلام جارتنا خبر صغير: علماء إسرائيليون يستعدون لإرسال مركبة صغيرة إلى القمر في نهاية 2015. صحيح أن إسرائيل أستاذة في شواء الشعب الفلسطيني لكن الصحيح أيضاً أننا نشوي شعوبنا باقتدار فظيع. قد تصل المركبة الإسرائيلية إلى القمر قبل إنجاز البيان الوزاري في لبنان. وقبل وقف النار في سورية. وقبل أن يتذكر المالكي أن أهل الأنبار وكردستان لهم حقوقه نفسها في بلدهم. اعتذرت جارتنا سلفاً عن الدخان والرائحة. في إقليم اللحم المشوي لا يعتذر أحد لقوافل الأيتام والأرامل والثكالى والنازحين.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إقليم اللحم المشوي إقليم اللحم المشوي



GMT 20:03 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

دومينو نعمت شفيق

GMT 20:01 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

معايير عمل البلدية

GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 19:29 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 19:26 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 19:23 2024 السبت ,27 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 14:05 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 08:54 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

جينيسيس تكشف عن G70" Shooting Brake" رسمياً

GMT 00:08 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

وزارة الصحة التونسية توقف نشاط الرابطة الأولى

GMT 21:09 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 23:44 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

مارادونا وكوبي براينت أبرز نجوم الرياضة المفارقين في 2020

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 11:03 2022 الأحد ,01 أيار / مايو

إتيكيت طلب يد العروس

GMT 10:04 2021 الإثنين ,10 أيار / مايو

الهلال السعودي يحتفل بمئوية جوميز

GMT 18:43 2022 الإثنين ,09 أيار / مايو

أفضل النظارات الشمسية المناسبة لشكل وجهك
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon