الرصاصة الأخيرة

الرصاصة الأخيرة

الرصاصة الأخيرة

 لبنان اليوم -

الرصاصة الأخيرة

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

لم يبقَ في المسدّس غير رصاصة أخيرة ولا مفر من إطلاقها. ويستحسن أن يكونَ الوداع لائقاً. وبقدر من الأمل إذا أمكن. وبشيء من الفرح إذا تيسّر العثورُ عليه. لست رجلَ أعمال لتنقب في دفاترك عن فرصة سنحت أو صفقة ضاعت. ولست سياسياً يحلم بالتسلل على حبال الكلام المعسول لاقتناص موقع واستبعاد منافس. أنت صحافي عربي مقيم في فخ الشرق الأوسط ودفاترك مثقلة بالويلات. للعادة سلطان لا يقاوم. كلما داهمني اليوم الأخير من السنة في مدينة ما أحرص على زيارة مضاربِ القبيلة. زيارة لتفقد شيوخِها المسنين. والغرض المجاملة والشكر والانحناء والتزوّد بقطرة عناد تساعد على مواصلة السباحة في النهر. لهذا أذهب إلى أقرب مكتبة. إلى متحف الأحلام والإرادات ومصنع المشاعل.

أعرف تماماً ما يقوله من وُلدوا على دوي الثورة التكنولوجية والإعلامية. يقولون إنَّ المكتبات ستموت كالدكاكين القديمة وأسواق العطارين. وإنَّ مكتبتَك الجديدة تقيم في جهازك. وإنَّ باستطاعتك استدعاء كل هذه الكنوز بكبسة زر. لا أتردد أحياناً في ممارسة هذه الرقصة الجديدة. لكنني أشعر أنَّ زيارة المكتبة تشحن البطاريات التي تساعد على مواجهة المقبل من الأيام. المكتبة قبيلتنا. مدرستنا وجامعتنا. على رفوفها يتمدد هؤلاء الذين مسَّتهم متعة هتك الأسرار وفتح النوافذ. لعنة الانشغال بأنسنة العالم أو خفض وحشيته على الأقل.

تعجبني حكايات هؤلاء الذين ألقوا بأعمارهم كاملة في كازينو نهر الحياة المتدفق. الذين راهنوا على تقديم إضافة. أو نصب فخ. أو إطلاق حلم. أو فضح مهزلة. حكايات هؤلاء الذين أشعلوا أيامهم مراهنين على إنارة الطريق أمام الوافدين. وأحب حكايات الذين اخترعوا أوهاماً قاومت وطأة السنين. أو أطلقوا أفكاراً هزت القرون أو المجتمعات. الذين أضرموا الثورات أو فضحوا أزياءها وشعاراتها. أحب هؤلاء الملاكمين الذين ردوا على ضربات العمر بضربات أشد. الذين حجزوا على الرفوف مقاعد دامت في حين تساقطت مقاعد من توهموا أنهم أصحاب القول الفصل والكلمة الأخيرة. الذين كتبوا بحبر الحياة وظل نبضهم حياً بعدما شاخت البيوت والأشجار وأفكار كثيرة.

أحب في المكتبة تنوع المطالب والأذواق. أتلصص على الأمزجة والمخاوف والانشغالات. هذا يريد أن يبحر أبعد في ما تركه هنري كيسنجر الذي أقام قرناً يقرأ ويكتب ويصنع المصائر ويدبج التبريرات. وهذا يريد أن يعرف أكثر عن فلاديمير بوتين الذي يستعد للاحتفال في السنة الجديدة بنجاحه في الثأر ممن اغتالوا الاتحاد السوفياتي. وذاك يريد مزيداً من التفاصيل عن قنبلة موقوتة اسمها كيم جونغ أون. أحب أيضاً زائراً يأكله القلق من الاحترار المناخي ويريد أن يعرف أكثر عما سيتسبب به من إخلال بالمحاصيل وهجرات واسعة ومشاهد مروعة.

المكتبات حدائق تنام على الكنوز وتنام أيضاً على الورود والسموم. أحب رؤية زائر يقدم طلبَ انتساب إلى حزب المتنبي أو يبحث عن «كليلة ودمنة». وأحب رؤية قارئ تائه بين الروايات العظيمة المعلقة في الذاكرة كالثريات والروايات الجديدة الساعية إلى التقاط التحولات السريعة والانهيارات الكبرى وارتباك المصائر. وأحب الشبانَ التائهين أمام كتب جنرالات التكنولوجيا وفتوحاتها. وأحب المبهورين بالذكاء الاصطناعي الذي سيحدث ثورات متلاحقة في الصحة والتعليم والصناعة والحروب. وأخاف قليلاً حين أسمع أنَّ الروبوتات ستهزم من ارتكبها وأنَّ أجهزة ستمتلك ذات يوم قدرة مذهلة على الكتابة ستثير حسد شكسبير ودوستويفسكي وفلوبير وجميع هؤلاء الممددين منذ قرون على رفوف المكتبات.

زيارة المكتبات أكثرُ دفئاً من زيارة المتاحف. يخالجك شعور أن بعض الكتاب رشقوا الموت بعبارات لا تموت. طعنوا الظلمة بالمشاعل وانتصروا لكرامة الإنسان وقدسية الحياة. بدَّدوا أيامهم لاحتضان أيام قرائهم. سكبوا أعمارهم حبراً وخبزاً وورداً وأسئلة.

في طريق العودة إلى الفندق وقعنا في زحمة سير خانقة. المدينة تغص بالسياح الوافدين إلى موعد لقاء الشمس بالطقس المعتدل على شفير البحر. توافدوا لغسل أرواحهم من كدمات العام الذي يستعد للإبحار بلا رجعة. لغسل ذاكرتهم من مشاهد الحروب والنعوش والأعاصير والزلازل وتصدع المدن وانهيار العملات.

بلا مبرر شعر السائق بالذنب. توهَّم أنَّه سيساعدني في محاربة الضجر. سألني من أي بلاد أنا. خفت أن أقولَ له. خشيت أن يسألني عن اسم رئيسها. وبلادي عارية بلا رئيس تواصل انحدارها وانتحارها على ألحان الفاسدين والفاشلين. لم يكن أمامي غير الاعتراف فاعترفت. لكني دفعت الكرة سريعاً إلى ملعبه. سألته من أي بلاد جاء فقال من الهند. سألته عن أوضاع بلاده وأذهلتني حالة الأمل التي يعيشها.

قال السائق إنه واثق بأنَّ بلاده تتَّجه نحو أيام أفضل. أكد أنَّ رئيس الوزراء ناريندرا مودي سيفوز بالانتخابات المقررة في السنة الجديدة لأنَّ الهنود يشعرون أنَّه يأخذهم إلى المستقبل بعدما طبق الإصلاحات اللازمة. لاحظ أنَّ باكستان تنفق أيامها في التجاذب بين العسكريين والمدنيين في حين أنَّ المؤسسات تعمل طبيعية في بلاده. ابتسم وقال إنَّ خوف الغرب من الصين دفعه إلى اتخاذ قرار باعتبار الهند بديلاً أفضل وإنَّ تدفق الاستثمارات قد بدأ. واعتبر أنَّ بلاده جاهزة لالتقاط الفرصة بما تمتلكه من قوة بشرية وتقدم تكنولوجي. توقّع تحسن الاقتصاد وتراجع الفقر وتقدم الهند للعب دور يليق بها. لم ينس انتقاد راجيف غاندي وبعض الذين يتعاطفون مع روسيا بفعل إرث العلاقات القديمة مع الاتحاد السوفياتي. وذكر أنَّه لن يتأخر في العودة إلى بلاده بفعل اطمئنانه إلى مستقبل أولاده وأحفاده.

أوجعني كلام السائق المطمئن إلى مستقبل أولاده وأحفاده. هاجمتني مشاهد القتل الوحشي في غزة. وتذكرت تلك المدن المتصدعة التي حملت إليها ذات يوم آلة التسجيل بحثاً عن خبر أو حوار أو ذكريات. تذكَّرت بغداد ودمشق وصنعاء والخرطوم وطرابلس وبيروت وغيرها. نموت شوقاً إلى فكرة تقدم تأخذنا إلى العصر. لا نريد الإقامةَ على قارعة التاريخ. نريد إطلاق الرصاصة الأخيرة من العام على الظلم والظلام، فمن حق العربي أن يحلم بالخروج من هذا الليل الطويل.

لفظ العامُ القاتل أنفاسَه. باسم زملائي وباسمي أتمنَّى لقراء «الشرق الأوسط» بكل منصاتِها عاماً يفتح البابَ للعدالة والتقدم ويطوي صفحة عالم عربي تحاول قوى كثيرة قريبة وبعيدة تكريسَه ملعباً لمصالحها ومطامعها بدل أن يكونَ لاعباً طبيعياً أسوةً باللاعبين الآخرين. سنة تفتح الباب لعالم عربي يتصالح مع نفسِه ومع العالم.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرصاصة الأخيرة الرصاصة الأخيرة



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 20:45 2023 الثلاثاء ,11 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 11 أبريل / نيسان 2023

GMT 17:08 2019 الإثنين ,11 آذار/ مارس

ربيع سفياني يكشف أسباب تألقه مع التعاون

GMT 19:29 2018 الخميس ,20 كانون الأول / ديسمبر

نائب رئيس الشباب أحمد العقيل يستقيل من منصبه

GMT 18:07 2022 الأربعاء ,01 حزيران / يونيو

ساعات أنيقة باللون الأزرق الداكن

GMT 22:12 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الجدي الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:14 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 06:04 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

للمحجبات طرق تنسيق الجيليه المفتوحة لضمان اطلالة أنحف

GMT 03:49 2024 الأحد ,17 آذار/ مارس

"Dior" تجمع عاشقات الموضة في حفل سحور بدبي

GMT 10:32 2021 الأربعاء ,11 آب / أغسطس

جرعة أمل من مهرجانات بعلبك “SHINE ON LEBANON”

GMT 09:48 2022 الأحد ,17 تموز / يوليو

تيك توك ينهى الجدل ويعيد هيكلة قسم السلامة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon