السيد الرئيس جاء لينتقم

السيد الرئيس جاء لينتقم

السيد الرئيس جاء لينتقم

 لبنان اليوم -

السيد الرئيس جاء لينتقم

بقلم :غسان شربل

يخاطب فلاديمير بوتين أميركا بلهجة الواثق أن نجمَها محكومٌ بالأفول. يهندس لغماً هائلاً في أوكرانيا، ويطالب بثمنٍ باهظٍ في مقابل صرف النظر عن تفجيره. يتحدث عن أوكرانيا معدداً شروطَه، لا طارحاً مطالبه. تَكرارُ اللعبة يفضح أسرارَها. لقد اخترع الكرملين الحماوة الحالية في الأزمة الأوكرانية من الألف إلى الياء. ربما كان محقاً في أن الغرب لم يلتزم تعهداتِ جيمس بيكر بأن حلف «الناتو» لن يتحرك شرقاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن لائحة المخاوف الروسية تبدو لائحة أعذارٍ مفتعلة لابتزاز الغرب.
يصعبُ التكهُّنُ بما يدور في رأس بوتين. تجربة العالم معه تفيد أنه أستاذ في إخفاء نواياه. خدع الزعماء الغربيين كثيراً يوم كان محتاجاً لتلقيح الخريطة الروسية ضد وباء التفكك وترميم هيبة الجيش وأسلحتِه. بعض من عرفوه يقولون إنه أستاذٌ في علم التضليل، أي في المادة التي تدرس في الكليات الحربية ومعاهد الاستخبارات. براعتُه لم تعد تحتاج إلى دليل. يمكن القول إن وصفاتِه المنطلقة من برنامجه الثأري صارت رائجة. كلُّ مظاهرة هي مشروع لزعزعة الاستقرار. كلُّ انتفاضة مؤامرة من صنع الخارج. منظمات المجتمع المدني مجرد دكاكين تديرها السفارات لتحقيق مخططات مشبوهة. أفاد من الممارسات الفظة للمتطرفين الأصوليين في «الربيع العربي» لتنظيم حملة كراهية دولية لأي ميول ربيعية. كل تغيير مشبوه، ويستحسن دفنُه في وقت مبكر. يوفّر لاختراقاته غطاءً كافياً. يتهم بالإعداد لهجمات كيماوية من لا يمتلك القدرة ولا النية. يتهم بالإرهاب أحياناً من لا يحلم بأكثرَ من خفض الفساد ومنسوب القسوة في زجر المواطنين.
على ضوء هذه الترسانة التي بلورها في الأعوام الأخيرة تعامل بوتين سريعاً مع الأحداث التي عصفت بكازاخستان. فور اندلاع الاحتجاجات على ارتفاع أسعار الوقود، التي ترافقت مع أعمال شغب، سارع رئيس كازاخستان قاسم توكاييف إلى الغرف من قاموس بوتين. ندد بـ«العصابات» و«الإرهابيين الدوليين» ولم يتأخر في الاتصال بـ«العيادة الروسية». ولم يكن وارداً بالنسبة إلى بوتين السماح بهبوب رياح التغيير أو زعزعة الاستقرار في هذا البلد المجاور الهائل المساحة والنائم على ثروات كبرى. وهكذا هندسَ الكرملين عملية تدخل باسم «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» لتغطية العودة العسكرية الروسية إلى هذه الجمهورية التي وُلدت من الركام السوفياتي. سارع بوتين إلى إغلاق النافذة الجديدة ليتفرغ لمهمته الأساسية وهي استنزاف الغرب وخصوصاً أميركا.
بوتين ليس الوحيد المعني باستنزاف أميركا والغرب. غاب قاسم سليماني من دون أن يحقق حلمه في رؤية «الشيطان الأكبر» ينزف حتى الموت. الرجل الذي أبهجته في بدايات الثورة مشاهد الأميركيين أسرى في سفارة بلادهم في طهران طارد الأميركيين في عواصم كثيرة. يمكن القول إنه ذهب بعيداً حين وافق على استقبال بعض من قيادات «القاعدة» وتسهيل مرور آخرين إلى العراق. وعلى أرض العراق كانت بصمات سليماني واضحة في التسبب في مقتل عدد غير قليل من الأميركيين. كان استنزاف أميركا الهدف الكبير في معركة الجنرال الجوال المسكون بهاجس اختراق الخرائط وتغيير ملامحها. تَدخلُ في السياق نفسه الجهود لقطع علاقات واشنطن بعواصم المنطقة. تعتقد طهران أن الخيط الأميركي هو الحارس للتوازنات القائمة في الإقليم منذ عقود. وعلى مدى عقود، ساهم سليماني في محاولة استنزاف الغرب وخصوصاً أميركا. أغلبُ الظن أنه لم يتوقع أن يجرؤَ رئيسٌ أميركي على إصدار أمر بقتله. فعلَها دونالد ترمب.
غابَ أسامة بن لادن من دون أن يحقّق حلمَه في أن يراقبَ عن قرب انسحاب الجيش الأميركي مثخناً من أفغانستان، على غرار ما حدث لـ«الجيش الأحمر» السوفياتي. كان حلم بن لادن أن يستدرجَ الآلة العسكرية الأميركية إلى حيث يتعذّر الانتصار، أي إلى التضاريس الصعبة في أفغانستان. ربما كان يقرأ في كتاب التاريخ الذي يصف تلك البلاد الشائكة بأنها «مقبرة الإمبراطوريات». وكان لبن لادن شريكٌ أفغاني في حلم استنزاف أميركا هو زعيم «طالبان» السابق الملا عمر. غاب الشريكُ الأفغاني أيضاً قبل أن تستقيلَ أميركاً من المغامرة الأفغانية، عبر انسحاب متسرع ترك أفغانستان محتلة من قبل جيش الجوع و«طالبان» عاجزة عن مقاومته.
قطعت أميركا رأسَ «القاعدة». قطعت أيضاً رأسَ «داعش». غاب أبو بكر البغدادي من دون أن يحقّق حلمَه في ديمومة «دولة الخلافة» واستنزاف أميركا وحلفائها. يخطئ من يقلّل من حجم الاستنزاف الذي تعرضت له أميركا على أيدي سليماني وبن لادن والملا عمر والبغدادي من دون أن ننسى أبو مصعب الزرقاوي. لكن الأكيد هو أن أميركا التي أصيبت في هذه الحرب لم تمت فيها. يمكن القول إنها ردت على الهجمات التي استهدفتها بعقوبات أنهكت الاقتصاد الإيراني وبتفكيك «القاعدة» وتدمير معقل «داعش» وترك «طالبان» تقلع شوكَها بيديها في بلاد جائعة. قدرة «الإسلاميين» على استنزاف أميركا محدودة بسبب خلفياتهم والنموذج الذي يعجزون عن منافسته وتقديم بديل له.
قدرة بوتين على استنزاف أميركا تفوق بكثير قدرة سليماني وبن لادن والبغدادي والملا عمر. إنه رئيس روسيا الشاسعة وقائد الترسانة الهائلة، وحامل سيف الفيتو في مجلس الأمن، والممسك بحنفية الغاز التي تقي الأوروبيين خطر التجمّد في صقيع الشتاء. يستطيع أن يحقّقَ ما عجز الآخرون عن تحقيقه. رجل قوي يزعم أنه خائف. يحاصر الآخرين ويدعي أنه محاصر. يزعزع استقرارَ العالم الأميركي ويعبّر عن خوف روسيا على استقرارها.
ليس بسيطاً أن يحوّل بوتين موضوع غزو أوكرانيا خبراً مطروحاً في ردهات السياسة الدولية ومكاتب جنرالات «الناتو». هل يراهن على أن تؤدي المفاوضات التي ستجرى هذا الأسبوع إلى دقّ إسفين بين أميركا وأوروبا؟ وهل يعتقد أنّه يستطيع أن يخدع بايدن في أوكرانيا كما خدع أوباما في سوريا؟ هل يعتقد أن خوفَ أميركا من «الخطر الصيني» قد يدفعها إلى استرضاء روسيا والتنازل عن بعض المكاسب التي حققتها غداة انهيار الاتحاد السوفياتي؟ الأسئلة كثيرة. لكن الأكيد أن بوتين يواصل قيادة معركة استنزاف أميركا. والأكيد أنه جاء من صفوف الـ«كي جي بي» إلى مكتب ستالين لينتقم من الذين شطبوا الاتحاد السوفياتي من الخريطة ودفعوه إلى المتاحف.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السيد الرئيس جاء لينتقم السيد الرئيس جاء لينتقم



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 13:42 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 22:08 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

حملة ميو ميو لصيف 2021 تصوّر المرأة من جوانبها المختلفة

GMT 15:01 2024 الخميس ,11 إبريل / نيسان

زلزال بقوة 5.6 يضرب منطقة شينجيانج الصينية

GMT 12:38 2020 الأربعاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الجزيرة الإماراتي يجدد عقد خليفة الحمادي 5 مواسم

GMT 18:03 2021 الجمعة ,17 كانون الأول / ديسمبر

تصاميم ساعات بميناء من عرق اللؤلؤ الأسود لجميع المناسبات

GMT 14:06 2023 الإثنين ,03 إبريل / نيسان

إتيكيت عرض الزواج

GMT 19:33 2022 السبت ,07 أيار / مايو

البنطلون الأبيض لإطلالة مريحة وأنيقة

GMT 11:29 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

أعشاب تساعد على خفض الكوليسترول خلال فصل الصيف

GMT 10:06 2022 الثلاثاء ,12 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار الأحذية النود المناسبة

GMT 11:21 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

نجم تشيلسي أندي تاونسند يعتقد أن صلاح فقد الشغف

GMT 21:17 2023 الإثنين ,20 آذار/ مارس

إطلالات عملية تناسب أوقات العمل

GMT 19:34 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

ملابس صيفية تساعدك على تنسيق إطلالات عملية

GMT 16:05 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

حذار النزاعات والمواجهات وانتبه للتفاصيل

GMT 07:36 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

نوال الزغبي تستعرض أناقتها بإطلالات ساحرة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon