نشرات الأخبار التلفزيونيّة وأشكال العدوان على ألم اللبنانيّين

نشرات الأخبار التلفزيونيّة وأشكال العدوان على ألم اللبنانيّين

نشرات الأخبار التلفزيونيّة وأشكال العدوان على ألم اللبنانيّين

 لبنان اليوم -

نشرات الأخبار التلفزيونيّة وأشكال العدوان على ألم اللبنانيّين

بقلم:حازم صاغية

نشرات الأخبار في محطّة «إل بي سي آي» اللبنانيّة أقرب إلى سبق صحافيّ باهر يتكرّر يوميّاً. فهي تقول لنا، ضدّاً على ما نعرف، إنّ لبنان يقفز من نجاح إلى نجاح. من تفوّق إلى تفوّق. المصطافون والسيّاح يتدفّقون عليه. الحفلات والسهرات لا تتوقّف فيه. بلداته وقُراه تستعرض تاريخها ومفاتنها وطيب مآكلها. عبقريّة اللبنانيّين في الفنون والآداب على أنواعها تبهر العالم. فِرَقنا الرياضيّة تحرز النصر تلو النصر...

أغلب الظنّ أنّ الذين يقدّمون الأخبار على النحو المذكور حسنو النوايا، وهم ربّما اجتهدوا فخرجوا بالوصفة التالية: هذه الكارثة الشاملة سبب إضافيّ لطلب شيء من الأمل. تفاءلوا بالخير تجدوه...
لكنْ للأسف، وبما أنّنا نتحدّث عن نشرة أخبار، تكفي دقيقة أو دقيقتان حتّى يتبيّن أنّ السبق الصحافيّ زائف، وأنّ الأمل العتيد ليس في محلّه. طرد الواقع بسلاح الرغبة ينتهي مفعوله قبل أن يبدأ. ذاك أنّ الأخبار الفعليّة لن تلبث أن تأتينا فتقذف بنا من سماء الأمل إلى أرض الواقع: إنّ المآسي تحيط بنا من كلّ الجهات فيما الخروج منها ليس بالأمر الهيّن.
هذه المقاربة خطيرة، ليس فقط لأنّ طائر الفينيق الشهير لن يعاود الانبعاث من الرماد، ولا لأنّ اللبنانيّ غير قادر على أن «يعمّر ما تهدّم»، عملاً بأغنية «راجع يتعمّر لبنان». إنّها مقاربة خطيرة لأنّها، عند كلّ احتكاك يحتكّه اللبنانيّ بالواقع، قد تضاعفُ إحباطه، سيّما أنّ الاحتكاك هذا هو ما لا يستطيع أيّ مواطن تجنّبه على امتداد نهاره وليله الطويلين. إنّه يأتيه مع رغيف الخبز والدواء والوقود والشعور المؤلم بالترك والتخلّي...
على الضدّ من تربية الأوهام، قد يكون السلوك الأعقل والأنضج والأكثر إفادةً أن يضاف وعي المأساة إلى المأساة. يتحقّق ذلك بالوصف الأكمل لما جرى ويجري، وبرسم الصعوبات الكبرى التي يرتّبها تجاوز هذا الواقع، وتناول المسؤوليّات الضخمة التي تترتّب عن ذلك، والمحاسبات والتضحيات التي تقف في الطريق...
لا الإنكار يفيد إذاً ولا التخفيف. لهذا فالتجاور بين النشرتين في نشرة واحدة يجعلنا نخرج بنتيجة عجائبيّة من نوع: إنّ التفوّق الباهر الذي يحرزه اللبنانيّون على جميع الصعد إنّما يتسبّب بكارثة غير مسبوقة يُعانونها اليوم!
لكنْ إذا كانت مقاومة الواقع بالفولكلور وبالصور الورديّة مؤذية بما فيه الكفاية، فمقاومة الواقع بالصور الدمويّة مؤذية أكثر بكثير.
هنا أيضاً، وعبر محطّتي «المنار» (لحزب الله) و«الميادين» (لعشّاق حزب الله)، لا يستغرق انكشاف الحقيقة الفعليّة أكثر من دقيقة أو دقيقتين: فبعد أطنان الانتصارات و«ما بعد بعد حيفا» و«ما بعد بعد كاريش» و«إذلال العدوّ الصهيونيّ» الذي تصطكّ أسنانه خوفاً منّا، يضيف المذيع نفسه، أو الضيف نفسه، أنّ ذاك العدوّ خرق أجواءنا آلاف المرّات في السنوات القليلة الماضية، أو أنّه ينفّذ، في هذه اللحظة ذاتها، غارة جوّيّة في الجوار السوريّ القريب.
ومرّةً أخرى، إذا وحّدنا طرفي الخبر في جملة واحدة خرجنا بعبارة من نوع: بفعل كثرة الانتصارات التي أحرزناها ونحرزها، وبسبب حجم الخوف الذي أنزلناه ونُنزله بالعدوّ، فإنّه خرق أجواءنا آلاف المرّات في السنوات القليلة الماضية ولا يزال يخرقها.
إنّ الطعنة التي يتلقّاها المنطق الشكليّ، والحال هذه، موجعة جدّاً.
لا شكّ أنّ طرق حجب الواقع عديدة وكثيرة المصادر، بعضها يأتي من تقليد قرويّ لبنانيّ بسيط، وبعضها الآخر من تقليد عسكريّ عربيّ شهير في قلبه الهزائم انتصارات.
لكنّ هذا العدوان على العقل لا يكتم الفوارق بين أشكاله.
فالعدوان الأوّل حسن النوايا، ومن صنف ثقافيّ، بمعنى أنّه أسير نظرة إلى البلد قديمة وفولكلوريّة وصوفيّة في وقت واحد، نظرةٍ تفتقر إلى وعي التغيّرات، وتتوهّم، على الطريقة الرحبانيّة القديمة، أنّ صدفةً جميلة قد تحلّ مشكلاته الصعبة.
العدوان الثاني سيّئ النوايا، يستفيد من الضعف الوطنيّ ويبني عليه. وهو أيضاً ثقافيّ إلاّ أن ثقافيّته من طبيعة حربيّة وانقلابيّة. إنّه واثق من اندفاع البلد إلى موته وحاسم ونشيط في تسريع دفعه إليه.
وإذا كان الهجوم الورديّ على العقل يثير الخوف من إضاعة ألم اللبنانيّين عبر خلط عناصر الألم وتضييع أسبابه، فإنّ رسالة الهجوم المسلّح هي توسيع ذاك الألم ورفعه إلى مصاف الأهداف الجليلة المنشودة.
العدوان الأوّل يقول لنا إنّ العلاج يكمن في الأمل الباسم والإبقاء على كلّ شيء. العدوان الثاني يقول لنا إنّ العلاج هو في تجرّع المزيد ممّا أوصلنا إلى ما نحن اليوم فيه بحيث لا يأتي الغد إلاّ وقد استؤصل كلّ شيء.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نشرات الأخبار التلفزيونيّة وأشكال العدوان على ألم اللبنانيّين نشرات الأخبار التلفزيونيّة وأشكال العدوان على ألم اللبنانيّين



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:05 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

تملك أفكاراً قوية وقدرة جيدة على الإقناع

GMT 15:08 2024 الخميس ,11 إبريل / نيسان

هزة أرضية تضرب ولاية تبسة شرقي الجزائر

GMT 16:31 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

الجزائري عسله الأكثر تصديًا للكرات في الدوري

GMT 23:10 2023 الثلاثاء ,09 أيار / مايو

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 9 مايو/ أيار 2023

GMT 19:03 2022 السبت ,14 أيار / مايو

نصائح لاختيار ملابس العمل المناسبة

GMT 18:36 2023 الأربعاء ,05 إبريل / نيسان

حقائب فاخرة لأمسيات رمضان الأنيقة

GMT 15:28 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

الكشف عن قائمة أفضل وجهات سفر عالمية في 2024

GMT 11:52 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

إتيكيت زيارات العيد

GMT 23:14 2019 الثلاثاء ,12 آذار/ مارس

يوسف عنبر مدربًا للمنتخب السعودي

GMT 11:06 2022 الإثنين ,14 شباط / فبراير

أفضل الزيوت الطبيعية للعناية بالشعر الجاف
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon