لبنان كساحة استثناء حربيّ

لبنان كساحة استثناء حربيّ؟

لبنان كساحة استثناء حربيّ؟

 لبنان اليوم -

لبنان كساحة استثناء حربيّ

بقلم:حازم صاغية

قبل يوم واحد على الذكرى الأربعين لغزو لبنان في 1982، بدأت إسرائيل تنقّب عن الغاز عند الحدود البحريّة للبلدين. هذا التنقيب، وفقاً لبعض المراقبين، قد تخذله «الشروط الإقليميّة» التي تحوّله إلى حرب، لكنّه، وفقاً لمراقبين آخرين، قد تخدمه «الشروط الإقليميّة» بحيث يتحوّل مدخلاً لحرب طاحنة أخرى.
شيئان يمكن استنتاجهما من تلك المقدّمات: الأوّل، أنّ حالة الحرب النشطة لم تفقد شيئاً من نشاطها في لبنان، وهذا على رغم مرور 40 سنة على الحرب و22 سنة على التحرير، والثاني، أنّ «الشروط الإقليميّة» هي ما تتحكّم بتقرير صحّة الحالة الحربيّة ومدى نشاطها. إنّنا بلد بالغ الهشاشة، حرباً أو سلماً، حيال «الشروط الإقليميّة».
وهذا يبقى غريباً بالقياس إلى التجارب العربيّة الأخرى فيما خصّ حالة الحرب النشطة: فبعد نيّف وعشر سنوات على هزيمة يونيو (حزيران) 1967 انتهت حالة الحرب، نشطة كانت أم كسولة، بين مصر وإسرائيل. ومنذ 1973 أغلقت الحدود الجنوبيّة لسوريا إغلاقاً محكَماً فلم تعد إلى التفجّر إلا بعدما فجّر نظام الأسد كلّ شيء آخر. ومنذ 1993 و1994 تحكم اتفاقات سلام علاقات إسرائيل في كلّ من فلسطين والأردن.
هذا لا يعني أنّ إنهاء الحروب أنهى الخلافات، وبعضها كبير جدّاً، ولا هو أنهى الانتهاكات الإسرائيليّة هنا أو هناك، وهو لا يعني بالطبع أنّه أحلّ الجنّة على أراضي تلك البلدان التي سالمت. مع هذا فهو أنجز شيئاً كبيراً جدّاً: لقد أنهى الحرب، أي أنهى الموت الموسّع. هذا ليس تطوّراً بسيطاً ولا تفصيلاً عارضاً. صحيح أنّ الناس لا يزالون يموتون خصوصاً في الحروب الصغرى التي نشبت وتنشب بين إسرائيل وقطاع غزة، لكنّهم لا يموتون بالأعداد التي كانوا يموتون فيها إبّان الحروب الكبرى السابقة. جريمة مقزّزة كقتل الزميلة شيرين أبو عاقلة حصلت، وقد يحصل مثلها، لكنْ أيضاً تنشأ قنوات لتذليل النزاعات وفضّها أو ضبطها، وهي قنوات كان يمكنها أن تكون أكثر فاعليّة وإنجازيّة لولا التطرّف الذي تنامى في إسرائيل وفي عموم المنطقة مستفيداً من تعثّر السلام.
ماذا يعني هذا؟
في حرب 1967 قضى 20 ألف عربي و800 إسرائيليّ. في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 قضى 12 ألفاً. في غزو 1982 قضى أكثر من 7 آلاف. هؤلاء لم يعودوا يموتون. موت البشر وحياتهم يُفترض أن يعنيا لنا الكثير. إنّهما بذاتهما سبب كافٍ لاجتراح طرق غير مألوفة في التفكير وفي السياسة. أمّا الذين لا يستوقفهم هذا العامل فأمرهم خطير وأمرنا معهم أخطر.
صحيح أنّ صِيَغَ العلاقة العربيّة - الإسرائيليّة التي نشأت بعد انتهاء الحروب الكبرى ليست صِيَغاً مثاليّة ولا فاضلة، لكنّ أسوأها يبقى أفضل من «أفضل» حرب. مع هذا، فلبنان هو البلد العربي الوحيد المستثنى من العمل بهذا المبدأ: 1982، التي كانت المعادل اللبناني المحلّي لـ1967 المصريّة والسورية والأردنيّة، لم تكن نهاية حروبه بل بدايتها. والحكمة السائدة اليوم في لبنان أنّه مطلوب مزيد من الحروب ومن القتلى ومن ثقافة تمجيد الحرب والموت، وأنّ إسرائيل طامعة فينا وحدنا ومعتدية علينا وحدنا بما يوجب على لبنان وحده البقاء عالقاً في الحرب. أمّا أن يكون هذا البلد أحد أضعف البلدان العربيّة عسكريّاً، وأحد أقلّها إجماعاً على فكرة الحرب، فلا يغيّر شيئاً.
هذا الاستثناء اللبناني يدفع كثيرين إلى الوقوع أسرى منطق المؤامرة: لماذا نحن وحدنا يراد لنا أن نكون عالقين في الحرب؟ فإذا أضفنا دور «الشروط الإقليميّة» في التسبب بها، أو العيش الدائم في جوارها، اكتسب هذا الوعي التآمري صلابة يصعب تحدّيها.
والحال أنّ التضليل بالحرب وبضرورتها المزعومة يشبه تمام الشبه استخدام الحرب في الأنظمة التوتاليتاريّة: جورج أورويل، على لسان بطله ونستون سميث، يقول في روايته «1984» إنّه لا يستطيع أن يتذكّر زمناً لم يكن فيه بلده يخوض حرباً. فسكّان أوسيانيا كانوا دائماً يُلقَّمون تقارير عن انتصارات كبرى في إستاسيا فيما كانوا في الوقت نفسه يُزوَّدون بتحذيرات مقلقة عن مخاطر كبرى في الداخل.
نحن أيضاً نعيش، إلى جانب الحرب وما يقال لنا إنّه انتصارات نحرزها، «مخاطر كبرى في الداخل»: من تفاهة السلطة وسلاح «حزب الله» إلى الأزمة الاقتصاديّة.
والأمر يواكبه نموذج: ففي محلّ الاستثناء اللبناني القديم الذي اتُّهم باستعجال كلّ سلام، يحلّ الاستثناء الجديد الذي ينطوي على استعجال كلّ حرب، وعلى شبق البقاء في الحرب حتّى لو هجرها الآخرون جميعاً.
وأسوأ من أن يكون البلد ساحة لحربه المفتوحة ولحروب غيره المقفلة، أن يكون ساحة تتجمّع فيها وتستنقع أحقاد المنطقة كلّها. إنّ هذا كفيل بإنتاج مواطن لبناني حاقد وكاره ومشبع بالسمّ لا يؤمَن العيش في جواره، ولا يسهل الاشتراك معه في فضاء سياسي أو اجتماعيّ. وفي هذا كلّه شيء كثير من حبّ الجثث.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان كساحة استثناء حربيّ لبنان كساحة استثناء حربيّ



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 21:00 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 17:53 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 13:47 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 22:16 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 13:05 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 20:21 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 23:27 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 12:50 2022 الإثنين ,18 تموز / يوليو

ببغاء يُفاجئ باحثي بممارس لعبة تُشبه الغولف

GMT 19:17 2022 الإثنين ,18 إبريل / نيسان

التيشيرت الأبيض يساعدك على تجديد إطلالاتك

GMT 08:55 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتسرّع في خوض مغامرة مهنية قبل أن تتأكد من دقة معلوماتك

GMT 17:32 2023 الأحد ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة الفنان طارق عبد العزيز بعد تعرضه لأزمة قلبية مفاجئة

GMT 17:32 2021 الثلاثاء ,07 كانون الأول / ديسمبر

خريجو الجامعات اليونانية يلتقون فلاسيس بدعوة من فونتولاكي

GMT 23:31 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 11:15 2020 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

أجواء إيجابية لطرح مشاريع لتطوير قدراتك العملية

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon