يوم التأسيس حفريات السردية التاريخية

يوم التأسيس: حفريات السردية التاريخية

يوم التأسيس: حفريات السردية التاريخية

 لبنان اليوم -

يوم التأسيس حفريات السردية التاريخية

بقلم:يوسف الديني

تأكيداً لما تم طرحه في المقالين الفائتين على تقدم سردية الدولة وولادتها الأولى وضرورة التصحيح للكتابة التاريخية، انطلاقاً من ولادة الكيان السياسي والمدينة الدولة في الدرعية؛ فإن المهم تتبع ما يعرف بحفريات السردية التي طرحها فيلسوف السلطة بلا منازع ميشيل فوكو الذي قرر هذه الأسبقية بما يملكه مفهوم «السلطة» من تعالٍ وفوقية نابعة من سيادة أجهزة الدولة التي تحتكر العنف في المجتمع، وتنتج العلاقات الأفقية في المجتمع عبر خطاب خاص يعبّر عن «قطيعة تاريخية»، ومن هنا يمكن القول إن القطيعة مع السائد حدثت مع الدرعية المدينة الدولة بفترة طويلة سبقت خطاب الدعوة، الذي استفاد من التوحيد السياسي في بداياته المبكرة، وتجذر علاقات السلطة الجديدة القائمة على تدعيم الاستقرار.

إشكالية الكتابة التاريخية للسلطة السياسية ما قبل مدونات الدعوة كانت مثار التساؤل لدى العديد من الباحثين، وخصصت لها العديد من الأوراق والكتب أشهرها مقالة المؤرخ الشهير عبد الله العثيمين «نجد من القرن العاشر»، ومقالة لمنصور الرشيد «قضاة نجد أثناء العهد السعودي» وكلتاهما نشرت في مجلة الدارة، كما كان محل بحث معمق للكتاب الأبرز في تتبع تاريخ تلك المرحلة من المصادر غير التقليدية للباحث عويضة الجهني، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه عن تاريخ نجد ما قبل الدعوة ترجمت لاحقاً، وجوهرها مبني على فرضية الباحث بأن الدعوة لم تحدث بمحض الصدفة، لذلك جهد المؤلف رغم قلة المصادر لسردية السلطة ما قبل الدعوة إلى تتبع الوقائع التاريخية حول مجتمع نجد والدرعية، خلال العقود الثلاثة التي سبقتها، ووصل إلى نتائج مذهلة عما وصفه بتطورات مدهشة في مناطق تحركات الهجرة البدوية نحو الاستيطان، ونمو عدد السكان المستقرين، وحركات الهجرة وإعادة الاستيطان والتعلم، وصولاً إلى مجتمع بمعالم واضحة لديه آفاق جديدة وتطلعات جادة.
العديد من مصادر الدراسة خارج التدوين المرتبط بالدعوة والخطاب الديني الذي شرحت في المقال السابق، عن ظاهرة تضخمه في الممارسة التاريخية منذ العصور الإسلامية المبكرة للتدوين، هي مصادر عبارة عن مسوّدات لم تحظَ بالعناية أبرزها تاريخ ابن منقور 1713م وتاريخ ابن ربيعة 1745م، وتاريخ ابن يوسف وتاريخ ابن عباد الدوسري 1761م، وصولاً إلى تاريخ بان منصور الناصري 1865م، ورغم الكتابة البدائية واعتمادها على اللهجة المحلية في هذه المسودات، فإنها من أهم السجلات التاريخية العضوية organic التي لم يطالها التحيّز في دافع الكتابة التاريخية أو التاريخ العقائدي الغائي، ولذلك فإن الفكرة العامة التي أنتجتها تؤكد على وجود تاريخ سلطوي مستقر للبلدات وبنائها والصراعات إضافة إلى بعض الوقائع المتصلة بالحوادث الطبيعية كمواسم القحط والأوبئة العامة والجوائح، التي تعطي مؤشرات على التفاعل الاجتماعي مع مركزية السلطة من ضعفه.
ومع ذلك فإن المؤشرات ذاتها موجودة وإن بشكل مضمر مع الكتابة التاريخية للدعوة وأبرزها عمل عثمان بن بشر «عنوان المجد في تاريخ نجد»، وهو العمل الأكثر موسوعية سواء في السياقات المتصلة بالرد على خصوم الدعوة، أو في تأريخ الوقائع والأحداث التي سبقت الدعوة التي يصفها المؤلف بوصف «سابقة»، ويضاف إلى هذا العمل الكبير «تاريخ الفاخري» 1860م، تاريخ نجد من المصورات الشهيرة التي انتشرت قبل أن يطبع في مناسبة مرور مائة عام على تاريخ المملكة.
الحالة السياسية والاجتماعية لسكان نجد المستقرين في الدرعية ساهمت في تشكيل نواة التطلعات الجديدة والتحول نحو أسئلة الاستقرار والدولة.
يوم التأسيس بداية لإعادة الاعتبار لخطاب الدولة والاستقرار، ومع صدور الأمر السامي من خادم الحرمين الشريفين بات مناسبة وطنية للاعتزاز بالجذور الراسخة للدولة السعودية على يد الإمام محمد بن سعود منذ ثلاثة قرون، وما حققته التجربة المبكّرة من وحدة وأمن واستقرار وبناء وتنمية، والذي ساهم في ازدهار الدرعية مركز عراقة التجربة في أطوارها الثلاث، بما تحمله من ثراء وتنوع ثقافي واقتصادي ما زال امتداده إلى اليوم يمكن أن يجد الباحث ذلك في الاهتمام بالخيل والنخيل والشغف بالصقور والدكاكين المبكرة وتنقل البضائع والتجارة والزراعة والملامح المعمارية، وصولاً إلى رمزية لون العلم واللون الأخضر الذي تتوسطه كلمة التوحيد والذي يعود إلى لحظة الإمام محمد بن سعود، وأضيف له السيف في عهد المغفور له الملك عبد العزيز.
اليوم مع يوم التأسيس كعيد وطني للسعودية يتم الاحتفال به في هذه السنة، هو تأسيس لإعادة الكتابة التاريخية والهويّة المستعادة والدراسات لعراقة التجربة وثرائها بحاجة إلى المزيد من التأصيل للأدوات، فالتاريخ هو رهان للمستقبل الذي يستمد من عراقة التجربة الإجابات حول مكامن الاستقرار، وتجاوز التحديات والصعوبات رغم اختلاف الظروف، وهو مهم اليوم مع تطور مناهج المعرفة التاريخية والتاريخ المقارن خاصة مع الفتوحات الهائلة للعلوم الاجتماعية، ولا سيما مع مدرسة الحوليات والنقد التاريخي وبحسب الراحل المؤرخ الكبير هشام جعيّط ثمة فرق شاسع بين الإرث والكتابة التاريخية، فالتّراث هو كل ما ترثه الإنسانيّة من أسلافها، لكن التّاريخ هو كتابة ونظرة جديدة ومحاولة فهم لما حدث مبني على المساءلة والنقد والتأمل، وصولاً إلى «النواة التاريخية» التي تجعلنا ندرك بعض أسرار تميّز التجربة وفرادتها بعيداً عن حملات الاستهداف والتشويه والأدلجة، التي شكّلت في مرحلة ما صورة نمطية مستهلكة، لا يمكن معها تقدير التجربة العظيمة للاستقرار والرفاه والتوحيد لهذا التنوع والثراء فضلاً عن تثمينها!

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوم التأسيس حفريات السردية التاريخية يوم التأسيس حفريات السردية التاريخية



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 11:33 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

تنعم بحس الإدراك وسرعة البديهة

GMT 12:56 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 15:46 2024 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

وفاة الممثل السوري غسان مكانسي عن عمر ناهز 74 عاماً

GMT 18:24 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مصطفى حمدي يضيف كوتة جديدة لمصر في الرماية في أولمبياد طوكيو

GMT 15:53 2024 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

بحث جديد يكشف العمر الافتراضي لبطارية "تسلا"

GMT 19:00 2023 السبت ,09 كانون الأول / ديسمبر

لصوص يقتحمون منزل الفنان كيانو ريفز بغرض السرقة

GMT 13:02 2022 الثلاثاء ,07 حزيران / يونيو

توقيف مذيع مصري بعد حادثة خطف ضمن "الكاميرا الخفية"

GMT 15:43 2021 الخميس ,23 أيلول / سبتمبر

أعلى 10 لاعبين دخلاً في صفوف المنتخب الجزائري

GMT 12:03 2024 الثلاثاء ,16 كانون الثاني / يناير

العالم على موعد مع أول "تريليونير" في التاريخ خلال 10 سنوات

GMT 06:56 2023 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

أخطاء تجنبيها للظهور بصورة أنيقة ليلة رأس السنة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon