فواجع الانقسام

فواجع الانقسام

فواجع الانقسام

 لبنان اليوم -

فواجع الانقسام

عاطف أبو سيف
بقلم : عاطف أبو سيف

مرة أخرى يفجعنا الشباب برحيلهم المبكر. الحوادث الأخيرة مقلقة حيث يقرر الشباب أن حياتهم قد انتهت وأنهم لم يعودوا يطيقون العيش. تضيق بهم البلاد وتسودّ الدنيا في عيونهم. ما حدث نهاية الأسبوع الماضي ليس جديداً. فمنذ بداية العام الحالي حدثت 14 حالة انتحار، وبالطبع جل الحالات من الشباب. وفي كل مرة كأننا للمرة الأولى نسمع بما يجري، ونقع تحت الدهشة ذاتها أن هناك من يغادر الحياة طواعية دون أن يكمل فيها خطواته، ونصاب بالحزن ذاته والألم ذاته لأن هناك ظلماً يمس الكثيرين في مجتمعنا، ولأن من نأمل منهم حمل الراية ومواصلة الطريق يقررون أن يتنحوا جانباً ولم يعد هناك ما يغريهم في البحث عن المستقبل.
أيضاً نتذكر إلى جانب هذا حالات الهجرة التي تتم بالمئات، حيث تبحث عصافير بلادنا عن أعشاش خارج البلاد، ولا تعود تريد أن تبني لها حياة هنا، بل تفضل أن تجد أشجاراً غير أشجارنا حتى تبدأ حياتها من الصفر، غير آبهة بالصعاب ومتحملة كل العقبات، وبعضها وخيمة وصعبة. وفي سبيل ذلك يتم ركوب البحر والمخاطرة بالحياة إلى جانب دفع كل ما يملكه الشاب من مال من أجل أن يجد شاطئاً أكثر أمناً من البحر الجميل الذي يحمل وسيظل يحمل الحلم الأبدي بالعودة. مشاهد مؤلمة وتصيبنا بالحرقة لأن العشرات ماتوا وهم يبحثون عن شاطئ أكثر أمناً وبراً أكثر سلامة. ولم يقتصر الأمر على الشباب إذ إن عائلات برمتها ركبت البحر وغرقت، وستظل المشاهد البشعة لحالات الغرق تلاحقنا ونحن ننعم بالحياة، لأن هناك من وصل إلى قناعة أن الحياة بلا جدوى، وأن الاستمرار في البحث عن تفاصيلها لن يفيد في تحسين صورتها. حين يفقد المرء الأمل في المستقبل، فإن الحديث عن النضال من أجل هذا المستقبل لا يعود مجدياً، ولا يوجد ما يغري فيه. هكذا فإن ركوب البحر والمخاطرة في البحث عن بلد آخر يبدو على ما يحمله من مجازفات ومخاطر يدرك من يأخذهما أنهما قد تأخذان حياته إلا أنهما أقل كلفة من المعاناة التي يتحملها والذل الذي يشعر أنه يعيشه في الوطن.
تذكرون أيضاً الشاب الأنيق ساهر السلطان الذي لم يعد حلمه الصغير بحياة هادئة يجد مكاناً له في تفاصيل الحياة في غزة، فقرر أن يتركها بعد أن أنهكه السجان والمحقق والأمن تعذيباً؛ لأنه قال «بدي أعيش»، ومن بلد إلى آخر وبين الغابات بعد أن كان ينتظر الحياة الأجمل الذي يعتقد أنه يستحقها. هناك قضى ساهر المثقف ينظر إلى السماء الملبدة من بين أوراق أشجار الغابة الكثيفة، لعله يجد حلمه الذي أضاعه الانقسام وجبروت المحقق في زنزانته القذرة. ولأنه لم يرد أن يتنازل عن حلمه قرر أن يبحث عنه في مكان آخر. لكن الحلم لا يتحقق إلا في موطنه.
هذا العالم يكون قد مر على حكم حركة حماس لقطاع غزة بالقوة بعد الانقلاب في حزيران 2007 ثلاثة عشر عاماً وبذلك تكون «حماس» بهذا ومع مرور الأسابيع القادمة قد حكمت القطاع أكثر من حكم السلطة الوطنية له. تذكروا أن السلطة تأسست عام 1994 ودخل ياسر عرفات البلاد في الأول من تموز من العام ذاته، وعليه فإن السلطة ظلت تحكم القطاع طوال ثلاث عشرة سنة انتهت بانقلاب «حماس» التي تواصل منذ ثلاث عشرة سنة ونيف حكمها للقطاع. قد تبدو هذه مناسبة لإجراء بعض المقارنات حول واقع قطاع غزة خلال حكم السلطة وواقعه بعد سيطرة «حماس». وربما الأمر ليس بحاجة لمقارنة؛ إذ إن واقع القطاع ولسان حال أهله يشيران إلى الفرق الكبير الذي كانت عليه أحوالهم في السابق وما آلت إليه الآن. فالحياة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والثقافية والتنموية وكل شيء يمكن أن يخطر على بال المرء تراجعت بشكل كبير. وربما لا يمكن لـ»حماس» أن تذكر أي منجز حقيقي لها في قطاع غزة حسّن من حياة الناس وقدم لهم الخير بعيداً عن البلاغة والخطابة والشعارات التي ملّ منها الناس ولم تعد تجد من يشتريها. وبعيداً عن هذه الشعارات والخطب الرنانة، فإن الواقع يتحدث عن نفسه والشواهد تشير إلى ذاتها. وحتى على الصعيد السياسي، فإن اختلاف «حماس» مع مشروع السلطة السياسي لم يتم التدليل عليه بمشروع مختلف بعيداً عن الخطابة والبلاغة أيضاً، بل إن طموح حكام غزة كما دللت الشواهد طوال الفترات السابقة كان البقاء في الحكم والذود عن السلطة.
يمكن لأبناء جيلي ممن أتت السلطة وهم في أوائل العشرينيات أن يتذكروا شكل الشوارع في غزة قبل ذلك، واكتظاظ المدارس وقلة العيادات والمستشفيات، ويمكن لهم أن يتذكروا حركة بناء المؤسسات العامة من مستشفيات ومدارس ورصف للطرقات في السنوات الأولى من عمر السلطة. والأمر ذاته ينسحب على المؤشرات الاقتصادية من الناتج القومي العام ومستوى دخل الفرد ومستويات البطالة المنخفضة إلى تطوير الخدمات من شبكات الكهرباء والماء والاتصالات. ويمكن مقارنة كل هذه الإنجازات بالتراجع الكبير الذي حدث بعد الانقلاب في كل شيء. ويجب أن نسأل عن الفرق بين ثلاثة عشر عاماً من حكم السلطة ومثيلتها من حكم «حماس».
وربما هذه مناسبة للتذكير أن الحل لا يكمن في كل السابق، ولا في تبادل الاتهامات - رغم وجوب التذكير في بعض المرات بالفرق - بل في البناء على كل فرصة صغيرة أو كبيرة من أجل تجاوز الواقع المرير؛ لأن المصالحة مصلحة للجميع وهي قبل كل شيء الخيار الوحيد الممكن من أجل أن يتوقف شبابنا عن الانتحار وعن الهجرة وعن البحث عن حياة أخرى، لأننا فقط حين نثبت لهم أن المستقبل ممكن هنا سيواصلون البحث عنه هنا وليس في مكان آخر. 
 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فواجع الانقسام فواجع الانقسام



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 10:16 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

حاذر ارتكاب الأخطاء والوقوع ضحيّة بعض المغرضين

GMT 16:10 2022 الأحد ,10 تموز / يوليو

بنوك لبنانية تنسحب من قبرص

GMT 18:53 2020 الأحد ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم Seat يسطع من جديد مع سيارة اقتصادية وأنيقة

GMT 21:13 2023 الخميس ,13 إبريل / نيسان

موضة الأحذية في فصل ربيع 2023

GMT 13:07 2023 الإثنين ,20 شباط / فبراير

منى سلامة تطرّز الشوكولاته بحب والدتها

GMT 12:29 2022 الخميس ,07 تموز / يوليو

اطلالات مثالية لصيف 2022

GMT 12:40 2022 الجمعة ,01 تموز / يوليو

كيف تربي طفلك الذكي ليصبح استثنائياً

GMT 13:18 2021 السبت ,30 كانون الثاني / يناير

خبير بريطاني يعلن عن اكتشاف "خنافس غامضة" عمرها 4000 عام

GMT 04:50 2021 الجمعة ,20 آب / أغسطس

أفضل وجهات شهر العسل بحسب شهور العام

GMT 00:13 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج السرطان الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 09:25 2022 الأحد ,17 تموز / يوليو

6 تحذيرات من رئيس واتساب لجميع المستخدمين

GMT 20:11 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

هواوي تعلن رسميا إطلاق لاب توب Huawei MateBook 14
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon