في ظل جائحة كورونا انهيار وهم «التضامن الدولي»

في ظل جائحة كورونا... انهيار وهم «التضامن الدولي»

في ظل جائحة كورونا... انهيار وهم «التضامن الدولي»

 لبنان اليوم -

في ظل جائحة كورونا انهيار وهم «التضامن الدولي»

جورج كرزم
بقلم : جورج كرزم

في ظل عدم اليقين المرعب الذي أشاعته جائحة كورونا التي شلت البشرية وفرضت عليها اعتقالاً منزلياً إجبارياً، وحولتها قسراً إلى حقل تجارب لقرارات الحكومات والخبراء، تآكل «التضامن الدولي» أو ما تبقى منه؛ فانطوت كل دولة على ذاتها وتصرفت بأنانية واضعةً مصلحتها الخاصة دون أي اعتبار تقريبًا للآخرين، سواء كانوا حلفاء أو أصدقاء تقليديين. رؤية «التعاون الدولي» من على منصة الأمم المتحدة ووكالاتها آخذة في الذوبان. الأمم المتحدة تأسست في مؤتمر خاص بسان فرانسيسكو في نيسان 1945، وقد أنشئت على أنقاض عصبة الأمم التي فشلت في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية، رغم أنها استلهمت ولادتها من الفلاسفة والحقوقيين الذين حلموا وابتكروا، منذ القرن السادس عشر، أفكاراً سامية حول الأخوة والتعاون بين الدول والشعوب لتعزيز السلام والعدالة.

ولتحقيق أهدافها، تدعو الأمم المتحدة إلى «التسامح والتعايش مع بعضنا البعض كجيران طيبين، وتوحيد قوانا للحفاظ على السلام والأمن الدوليين». ولهذه الغاية، أَنْشَأَت المنظمة وكالات مساعدة للترويج لهذه الأفكار، ولتشجيع إنشاء تحالفات ومنظمات إقليمية؛ مثل الاتحاد الأوروبي، على أساس القواسم المشتركة بين مكونات تلك التحالفات والمنظمات.صحيح أن منظمة الصحة العالمية تواصل مراقبتها للجائحة وترصد عدد الضحايا، ويتبادل خبراؤها المعلومات؛ إلاّ أن سائر تعبيرات التضامن الدولي آخذة بالتلاشي.

مع تفشي جائحة كورونا، لاحظنا أن الأفكار «النبيلة» التي أقيمت على أساسها الأمم المتحدة ومنظماتها أخذت تتلاشى أمام أعيننا؛ وبدلاً من «التعاون» نجد الإجراءات الأحادية من جانب واحد. معظم دول العالم منعت دخول الأجانب إليها، وأغلقت مطاراتها ومعابرها الحدودية. ويتضح هذا الأمر بشكل خاص بين دول الاتحاد الأوروبي الذي أُبرم منذ سنوات قليلة معاهدة شنغن التي تسمح بحرية حركة الأشخاص والبضائع بين جميع أعضاء الاتحاد. وفي ظل خلفية أزمة كورونا وفشل الدول الأوروبية المتقدمة في مواجهتها بالكفاءة الطبية المطلوبة، صودر هذا الحق دون أي نقاش أو تشاور في مؤسسات الاتحاد؛ فقررت كل دولة إغلاق حدودها، وبالتالي، كأمر واقع، تم إلغاء معاهدة شنغن بقرارات ذاتية. بل إن إيطاليا واسبانيا الأكثر معاناة من الجائحة في منطقة الاتحاد الأوروبي، تركتا وحدهما تغرقان في مئات آلاف الإصابات وعشرات آلاف الوفيات، وبرزت الصين وكوبا وروسيا من أوائل الدول التي هبت لنصرتهما، وبخاصة إيطاليا التي قدمت لها الصين الخبراء والمعدات الطبية والأدوية.

ليس فقط أن التكتلات القارية والدولية وحدها أخذت تتآكل، بل أخذت تطفو على السطح الحساسيات والخصومات التاريخية القديمة، مثل تلك التي بين فرنسا وألمانيا، كما أن ظاهرة كراهية الأجانب والعنصرية أخذت تتفاقم.فالرأسمالية الأميركية التي تزعم بأنها زعيمة العالم الحرّ والحريات، كشفت عن وجهها البَشِع، فطفت على السطح الفضائح العُنصريّة؛ إذ أن نسبة الوفيّات بين السود هي الأعلى بالمقارنة مع إجمالي الوفيات الأميركية.

إبادة المسنين
الانحطاط المروع للنّظام الرأسمالي المُتغَوِّل، تجسد بنزعته نحو «تعقيم» المُجتمعات الغربيّة من الهوامش العِرقيّة، وإبادة المسنين- geronticide (تركهم يموتون وحدهم)، إذ باتوا بنظر الرأسمال يُشَكلون شريحة غير منتجة وعِبْئا مكلفا على أنِظمة الصحة والرفاه والضمان الاجتماعي، ولا بد من تركيز الاهتمام على الشباب الأصحاء والأقوياء فقط. وذلك استنادا إلى نظرية ما يسمى «مناعة القطيع» التي تداولتها أوساط حكومية بريطانية في أوائل آذار الماضي، تحت ستار ترك الفيروس ينتشر بين السكان بهدف زيادة مناعتهم العامة.

نحن نشهد حاليا ممارسة قوانين الغاب- أي البقاء للأقوى. هذه في الواقع نسخة مطورة للداروينية الاجتماعية التي ترتدي أقنعة سياسية-دبلوماسية. يمكننا العثور على تعبير دقيق لهذه الظاهرة في مدرسة دونالد ترامب الذي، ومنذ ما قبل الأزمة الحالية، جدد العقيدة الإمبريالية الأميركية: «أميركا أولاً» (America First)؛ فلم يأخذ ترامب في الحسبان جيران الولايات المتحدة: كندا والمكسيك؛ إذ لم يتردد في الانسحاب من جانب واحد من الاتفاقيات التجارية معهما، كما ضرب الاتفاقيات الدولية بعرض الحائط .

وبغطرسته الاستعلائية، سَخِرَ ترامب في البداية من فيروس كورونا (أواخر شباط) واعتبره أقل خطورة من الانفلونزا العادية. وحاليا حتى كتابة هذه السطور (أواخر نيسان) بلغ عدد المصابين في الولايات المتحدة نحو المليون والوفيات أكثر من 52 ألفاً؛ حيث تم دفن عدد كبير منهم في مقابر جماعية.وخلال آذار الماضي، تم الكشف عن أن ترامب دعا إلى البيت الأبيض رؤساء شركة Cure Vac الألمانية التي نجحت جهودها لتطوير لقاح لفيروس كورونا أكثر من أي مختبرات دولية أخرى. الرئيس الأميركي، في نرجسيته الصارخة، عرض إغرائه على الشركة الألمانية والمتمثل في تمويل جميع أبحاثها، شريطة نقل أعمالها إلى الولايات المتحدة. وفي المقابل، ستحصل الولايات المتحدة على الاستخدام الحصري للقاح، عندما يتأكد بأنه موثوق وفعال، ويحصل على موافقة الجهات الحكومية المختصة.

ولحسن الحظ، تم رفض العرض الأميركي كليا، إثر تدخل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قررت وضع هذا اللقاح، في حال جهوزيته، في خدمة البشرية بأسرِها دون أي تمييز. لكن مجرد طرح الفكرة يدل على المزاج السائد ليس فقط في «أميركا ترامب»، بل في العالم بأسره؛ حيث نجد تعامل العديد من الدول مع بعضها كما تعامل الذئاب، وبمنطق الاستحواذ قدر المستطاع. كل دولة في عجلة من أمرها كي توفر لنفسها معدات الوقاية، دون أي اعتبار للآخرين ودون تقديم المساعدة والدعم للبلدان الأضعف والأكثر تعرضا للإصابة بالجائحة.

ووصل مستوى تجييش ترامب ووزير خارجيّته مايك بومبيو ضد الصين، بأن أصرا على تسمية الجائحة بـِ «الفيروس الصيني»، ليتسترا على انهيار المنظومة الصحية الأميركية أمام الجائحة، فتجلى الأمر بالنقص الفاضح للأقنعة الطبية ومعدات الوقاية والأسرة وأجهزة التنفس وشرائح الفحص. بشاعة النظام الإمبريالي برزت باستهتاره وتضحيته بصحة المواطنين، وضعف الاستثمارات في الأنظمة العلاجية والطبية وإهمالها بل وتجريفها من جذورها؛ وعندما احتاج المواطن تلك الأنظمة لم يجدها. وفي المقابل، أُنْفِقَت التريليونات على الترسانة العسكرية التقليدية والنووية والكيميائية والبيولوجية الفتاكة. بل، وفي ظل الجائحة التي أصابت البشرية جمعاء، صعدت حكومة ترامب العقوبات الاقتصادية والطبية ضد إيران، للإمعان في عملية تجويع وقتل الآلاف.

وكي يتستر على فشله ويلقي التهم على الآخرين، بمن فيهم المنظمات الدولية، أوقف ترامب (في نيسان الماضي) الدعم الأميركي لمنظمة الصحة العالمية. وهذا الموقف الأميركي ليس جديدا أو مفاجئا، فكلنا يذكر قرار ترامب وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عام 2018، وقبل ذلك قرار الانسحاب من منظمة اليونسكو ووقف تمويلها.وفي المقابل، الصين التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة والتي ينعتها الكثيرون بالدولة الديكتاتورية- سجلت نجاحا منقطع النظير في مواجهة الجائحة وإدارة الأزمة الوبائية بكفاءة طبية عالية جدا؛ فحاصرتها بفترة قياسية وشيدت خلال عشرة أيام مشفى ضخما متخصصا بمعالجة وباء كورونا، مبدية رعاية طبية مهنية رفيعة المستوى. كما أن الخبراء والأطباء الصينيين قدموا المساعدات العلمية والطبية الطوعية لإيطاليا وإيران وكل بلد ابتلي بهذه الجائحة وطلب الدعم.

التخويف من المجهول والدرس المستفاد
علاوة على ذلك، تعززت أيضا ظاهرة أخرى لا تقل خطورة، وهي استغلال حكومات كثيرة للجائحة ولأجواء الخوف السائدة، فضلا عن الاغتراب البشري، لتعزيز حكمها وإحكام سيطرتها الأمنية-العسكريتارية. فمن المعروف أن أنظمة سياسية كثيرة تستخدم وسيلة التخويف من المجهول للسيطرة على شعوبها. وهنا نستذكر ما قاله جون آدمز (من مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية): «الخوف هو أساس الحكومات»! بل إن العديد من الحكومات الغربية استلمت الحكم بفضل حملات التخويف من المهاجرين واللاجئين.

إسرائيل الكولونيالية التي يحكمها اليمين المتطرف ليست سوى مثال بسيط على ذلك، إذ ما انفكت تسوق ذاتها باعتبارها القدوة العلمية-الطبية، متبجحة بقدراتها، وكأنها تقود العالم في مواجهة الجائحة؛ وذلك لإخفاء عجزها المريب وتخبطها في إدارة الأزمة، كتحصيل حاصل لسنوات طويلة من استنزاف نظامها الصحي وتقويضه المنهجي وهبوطه إلى آخر سلم الأولويات، رغم تحذيرات مسؤولي ذلك النظام والخبراء و»مراقب الدولة» خلال السنوات الأخيرة، من ضعف الجهوزية الإسرائيلية لمواجهة الكوارث الطبيعية والصحية مثل الأوبئة. وبالطبع، كل هذه التحذيرات موثقة جيدا.

وفي المقابل، خُصِّصَت موازنات واستثمارات إسرائيلية هائلة لتعظيم الترسانة العسكرية العدوانية الضخمة. وقد انكشفت هشاشة النظام الصحي الإسرائيلي في النقص الخطير بوسائل الوقاية للطواقم الطبية وبأسرة المشافي وبشرائح الفحص وبأجهزة التنفس وبالأقنعة الطبية التي استجدتها الحكومة الإسرائيلية من الهند والصين وتركيا، فسَخَّرَت لهذه المهمة أجهزة المخابرات والموساد تحديدا.كما أن دولة سلوفينيا الصغيرة التي تحكمها حكومة يمينية، فرضت، كما إسرائيل ودول كثيرة أخرى، أنظمة طوارئ أمنية لا تحتاجها المجتمعات، بل الغرض غير المعلن منها هو تقويض القيم الديمقراطية التقليدية مثل حقوق الإنسان وخصوصية الفرد؛ تلك القيم التي، تحت ستار الجائحة، تداس بالأقدام.

أخيرا نقول بأن الدرس الأساسي المستفاد من جائحة كورونا يتمثل في أن الطريق الأكيد والمضمون للسلم والعدالة والاستقرار العالمي والحفاظ على التوازنات الإيكولوجية والطبيعية وحماية الثروات الطبيعية؛ يتجسد في الحوار والتآخي الأممي واحترام الشعوب والدول لبعضها البعض ولحقوق كل منها في العيش بكرامة ومساواة، بعيدا عن كل أشكال النهب والاستغلال والاحتلال والتمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الطائفة.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في ظل جائحة كورونا انهيار وهم «التضامن الدولي» في ظل جائحة كورونا انهيار وهم «التضامن الدولي»



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 12:46 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الحمل الأحد 1 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 22:52 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الثاني 2020

GMT 16:26 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

بريشة : ناجي العلي

GMT 19:30 2022 السبت ,07 أيار / مايو

حقائب يد صيفية موضة هذا الموسم

GMT 20:40 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

اتيكيت الأناقة عند النساء

GMT 20:18 2022 الثلاثاء ,10 أيار / مايو

أفكار لتنسيق الجينز مع البلوزات لحفلات الصيف

GMT 05:22 2022 الأحد ,03 تموز / يوليو

نصائح لاختيار أحذية الـ Pumps بشكل صحيح

GMT 13:22 2022 الأحد ,13 شباط / فبراير

مكياج خفيف وناعم للمناسبات في المنزل

GMT 12:49 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

أنواع من الفواكه تحتوي على نسبة عالية من البروتين

GMT 12:29 2024 السبت ,13 إبريل / نيسان

أقوى اتجاهات الموضة لخريف وشتاء 2024-2025

GMT 08:43 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

موديلات حقائب ربيع وصيف 2023

GMT 12:48 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب السعودي يتقدم 3 مراكز في تصنيف فيفا

GMT 11:15 2022 الإثنين ,18 تموز / يوليو

خطوات بسيطة لتنسيق إطلالة أنيقة بسهولة

GMT 21:06 2022 الأحد ,17 تموز / يوليو

القطع المناسبة لإطلالات الشاطئ

GMT 01:34 2024 السبت ,13 إبريل / نيسان

بلقيس فتحي تطرح أحدث أغانيها "أحاول أغير"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon