في تذكّر غادة الشافعي

في تذكّر غادة الشافعي

في تذكّر غادة الشافعي

 لبنان اليوم -

في تذكّر غادة الشافعي

بقلم : زياد خدّاش

الذين لم يسمعوا بالشاعرة العكاوية الفلسطينية غادة الشافعي، ولم يقرؤوا لها سطراً شعرياً واحداً، يحق لملامح وجوههم أن لا تتغير حين يذكر اسمها في جلسة خاصة او في مقهى أو في مذياع، ولعيونهم ان تواصل نظرها العادي للأشياء، بإمكانهم تماماً أن يواصلوا ثرثراتهم ومشاغلهم فلن يلومهم أحد، الذين عرفوا غادة عيوناً وخطواً وابتسامات وصمتاً طويلاً وطيفاً ومفاجآت، وقرؤوا لها شعراً، وعرفوا سيرة حياتها بتحولاتها وعمقها وانقلاباتها، سيكون أمامهم خيار واحد: ان يبحثوا سريعاً عن خلوة ليمارسوا ذلك النوع من التذكر الذي يقع في منطقة ملتبسة بين الفرح والألم، في صيف 1996 نشر لغادة ديوان واحد يتيم، اسمه "المشهد يخبئ صهيلاً"، وقيل ان غادة لم تر ديوانها حتى الآن، الديوان فاجأ الحياة الثقافية الفلسطينية، التي لم تعتد على أنثى تكتب عن الوجود وعن رجل تتخذه جسراً للوصول الى حقائق الحياة وأسرارها. قبل غادة كانت الشاعرة الفلسطينية تكتب عن فواجعها الشخصية وهمها البيتي الضيق، او عن فواجع الوطن وهمومه، غادة أحدثت انقلاباً خطيراً في القصيدة الفلسطينية، لم تحتف به الثقافة الفلسطينية بما يليق بهذا الانقلاب من جمال ورشاقة وذكاء، العالم في شعر غادة هو الوطن، وجعها هو وجع الإنسان في كل مكان، الرجل كائن قريب ومطلوب لكن غادة لا تدعه واقفاً عند حدود جسده او روحه، إنها تجبره على ان يسلمها الى آفاق بعيدة وفضاءات عالية، لم تعهدها المخيلة الشعرية الفلسطينية، إنها تجره من نشوته العادية، ثم تتركه في منتصف الطريق وتطير الى كتل سحاب تنتظرها في الأفق، إنني أجزم بالقول إن الخروج عن نمط الكتابة الفلسطينية في أول التسعينيات بدأ مع غادة الشافعي وانتشر بعد ذلك في نصوص عديد من الكتاب والكاتبات، مثل سمية السوسي ويوسف القدرة ومحمود ماضي ومهيب البرغوثي ووليد الشيخ وغيرهم. وفجأة تترك غادة ديوانها، في مخازن مؤسسة بيت الشعر، تتركه دون ان تراه، دون ان تشمه او تلمسه، وتذهب الى المجهول، الى سحابها الكثيف المتحرك، لم يعد احد يرى غادة، لم تعد تكتب.
لم تعد تمشي في شارع المنارة مشيتها الدائرية، التائهة، تخلت عن الشعر لصالح طاقة شعر آخر لا يُكتب، لا يخط في كتب بل يعاش ويتنفس ويخلط مع الحواس، تكتب غادة قصيدتها الآن بعيداً عن الورق والحبر او الحاسوب او غيره من وسائل الكتابة، قصيدة العالم، المكتوبة بالتأمل والصمت والعزلة والاستنارات الداخلية العذبة، وحدها غادة تكتب الآن وتقرأ شعرها الجديد في ابتعادها الهانئ. جمهورها كائنات مختلفة داخلها، حبرها عيناها المليئتان بالله الحبيب وورقها هواء روحها البيضاء، المشهد يخبئ صهيلاً، تجربة غادة الأولى والأخيرة على الورق العادي وبحبر مطابع لا تهدأ في الهدير والثرثرة والرقص البهلواني، تعيش غادة الآن في مكان ما لا أحد يعرفه، مكان قد يكون القصيدة نفسها، القصيدة الكبرى للحياة بكل تناقضاتها وحيلها وسدودها، وغموضها.
العالم وطن روح غادة، وفلسطين معبر أو رمز ومحطة صغيرة، الله - المطلق - الجمال والنور اللامنتهي، هو هدف غادة، متى كانت قصيدة المرأة الفلسطينية الشاعرة، تمر من هذه الممرات الصعبة ؟؟ متى تخلت المرأة العربية الشاعرة عن وطنها المحدود لصالح وطن الروح والمحبة الكبيرة والطبيعة الصديقة، إنه الهروب الرائع الى الكينونة الأولى، العودة السريعة الجريئة الى وطن الجسد الأول، الحياة الأولى حيث لا لغة ولا جغرافيا ولا مؤسسات او حدود بين ذكر وأنثى، حيث الجبل يحكي والليل يغني والنهر يغضب، حيث الصرخة الأولى والركض بلا ثياب او أحذية تجاه البحيرة، في أمسيات الغابة العميقة، حيث جنسية الناس هي الإنسانية، وحيث وطنهم هو حريتهم، وحيث الأشياء مكشوفة تماماً، وطازجة تماماً، وبكر تماماً وحقيقية تماماً.
غادة: يا ابنة العالم
يا ابنة المطلق
يا ابنة القصيدة الكونية
هنيئاً لك
عالمك غير المحدد، غير المقسم
غير المصنوع.
-----
* أوّل التسعينيات ظهرت في عالم الكتابة شاعرة جميلة من عكا هزت كياننا الجسدي والأدبي نحن الأدباء الشبان، وخلخلت ثقتنا في نصوصنا هي غادة شافعي، أصدرت ديواناً واحداً وزارت رام الله مرة واحدة، ثم اختفت عن فلسطين وعن الشعر إلى الأبد

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في تذكّر غادة الشافعي في تذكّر غادة الشافعي



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 18:07 2023 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

منافسة قوية بين ريال مدريد وأرسنال على ضم فلاهوفيتش

GMT 14:58 2021 الثلاثاء ,14 كانون الأول / ديسمبر

هيفاء وهبي تضج أنوثة بملابس كاجوال ناعمة

GMT 07:33 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

ابتكار إطارات ذكية تقرأ مشاكل الطريق وتحذر

GMT 21:43 2021 الجمعة ,13 آب / أغسطس

الأهلي المصري يعلن شفاء بانون من كورونا

GMT 15:59 2020 الإثنين ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

تأجيل أولمبياد طوكيو يكلف اليابان 2 مليار دولار

GMT 05:55 2022 الخميس ,21 تموز / يوليو

هزة أرضية قوية تضرب وهران الجزائرية

GMT 13:25 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

طرق لإضافة اللون الأزرق لديكور غرفة النوم

GMT 18:56 2022 الإثنين ,03 كانون الثاني / يناير

متزلجو لبنان يستعدون لأولمبياد الصين الشتوي

GMT 15:58 2023 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل العطور الرجالية لهذا العام

GMT 15:41 2022 الأربعاء ,01 حزيران / يونيو

أحذية مسطحة عصرية وأنيقة موضة هذا الموسم

GMT 05:28 2022 الأحد ,10 تموز / يوليو

نسرين طافش تَسحر القلوب بإطلالة صيفية

GMT 08:42 2022 الخميس ,05 أيار / مايو

اتجاهات الموضة في الأحذية لربيع عام 2022

GMT 19:00 2024 الخميس ,04 إبريل / نيسان

سعر الذهب يصل لمستويات غير قياسية جديدة

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,20 تموز / يوليو

زيوت عطرية تساعدكِ في تحسين جودة النوم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon