في ذروة الأزمة في لبنان، أخرج الرئيس نبيه بري أرنبا من جيبه، وقدم خريطة طريق، قائمة على كسر العزلة الدولية على لبنان والثنائي الشيعي، ففتح كوة في جدران مفاوضات السلام بين لبنان وتل أبيب، وهذا لن يتم دون الطرق على باب ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ما يعني الركون إلى منطق المفاوضات.
مبادرة بري لم تأت من عنديات الثنائي الشيعي بالمعنى السياسي بل سبقها تمهيد إعلامي من قبل رئيس الجمهورية وفق ردود مقتضبة تتعلق بإمكانية تحقيق السلام مع إسرائيل، بعد تسوية الأمور العالقة بينهما.
ويصعب من اليوم، التنبؤ بالمسار المقبل لمفاوضات ترسيم الحدود، لكن حديث الصالونات السياسية يتحدث عن «بيعة حدودية» مجهولة النتائج، ومع ذلك قد تكون فيها مصلحة لكل الأطراف. فإسرائيل تسعى للاعتراف بحدودها الشمالية، فيما لبنان يريد نفطه وغازه لتجاوز أزمته الاقتصادية والمالية.
ووفق ما جاء على لسان عراب «الإطار» نبيه بري، أنه في حال نجاح المفاوضات، فإن لبنان سيتمكن من سداد ديونه من خلال التعويل على البلوك 8 و9، وبهذا يكون بري قد حدّد بشكلٍ مُسبق، لبنانية هذه المساحة البحرية.
لكن بري رفض إعطاء اتفاق الإطار أكثر من حجمه، وأن يرتدي حلة التطبيع، أو أنه خشية من العقوبات الأميركية المقبلة موضحا أنه لا يجوز بيع المياه في حارة السقايين.
ولم يكن عابرا تسريب فريق 8 آذار، أن انطلاق مفاوضات الترسيم وإمكان بلوغها خواتيمها خلال 6 أشهر يستوجبان حكومةً «سياسية ووطنية» توفّر مناخاً مستقراً في الداخل يظلّل مسار التفاوض ويواكب محاولات بلوغ اتفاق مع صندوق النقد الدولي على حزمة إنقاذية، مع إيحاءٍ بأن «ورقةَ الترسيم هي الأغلى على واشنطن – ترامب على بعد أمتار من السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض.
وهو ما انطوى على رسائل ضمنية بأن تسهيل هذا الملف، ورغم انتقاله إلى عهدة الرئيس ميشال عون، يتوقف على تخفيف الخارج والولايات المتحدة خصوصاً المنحى المتشدّد حيال الحزب وحلفائه ومشاركته في الحكومة الجديدة.
«حزب الله» في هذه النقطة يمارس السقف الأعلى من التشدّد. لا يمكن بالنسبة له خوض المفاوضات الحدودية المزنّرة بالصواريخ مع العدو الإسرائيلي في ظلّ وجود حكومة أو وزراء «متذبذبين وغير واضحي المعالم السياسية» أو في ظلّ غيابه عن التركيبة الحكومية. وفي هذا الإطار، يمكن فهم تشدد الثنائي الشيعي، تجاه قرار دخول الحكومة خلال مفاوضة مصطفى أديب لتشكيل الحكومة، بعدما فهم «حزب الله» مدى الحرص الأميركي على إبعاد «حزب الله» وشريكه في الثنائية الشيعية حركة أمل عن التمثيل المباشر في الحكومة مقابل تمثيل شيعي «خفيف وعلى الهوية».
فيما يسعى نصر الله من مشاركة الحزب في أيّ حكومة جديدة ضمانة لاستكمال المفاوضات في شأن ترسيم الحدود مع إسرائيل. فهو الطرف اللبناني الوحيد القادر على اتخاذ قرار كبير في حجم ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
وربما أعمق من ذلك، فهو ربما سعى بتسهيل الوصول إلى إطار للاتفاق حول الترسيم في هذا التوقيت، وليس التوصل إلى اتفاق نهائي، إلى تجنب ضربات إسرائيلية في وقت تبدو تهديدات بيبي نتنياهو جدّية في الوقت الضائع قبيل الانتخابات الأميركية، خصوصا بعد إشارته إلى تخزين صواريخ في منطقة الجناح الملاصقة لبيروت والقريبة من الضاحية الجنوبية.
وفي هذا الإطار يتمّ التعاطي مع طرح نجيب ميقاتي الذي يجري تداوُله حول حكومة تكنو - سياسية من 20 وزيراً بينهم ستة سياسيين يمثّلون الطوائف والقوى السياسية الستّ الرئيسة.
مبادرة نجيب ميقاتي حول تأليف حكومة سياسية هي خيار «أفضل الممكن» حالياً الذي يُراعي ويتلاءم مع التطورات المستجدة، بداية من المبادرة الفرنسية إلى اتفاق الإطار، الباقي أن يجري تأمين التفاهمات السياسية، سواء بالنسبة إلى الاقتراح أو الشخص بعدما انحصرت الخيارات بين نجيب ميقاتي وسعد الحريري.
على كل حال، المبادرة الفرنسية بنسختها الثانية لم تَعد مستقلّة بل أضحت مرتبطة عضوياً بمفاوضات «الإطار»، والدعوة إلى استشارات نيابية باتت محكومةً بالشروع في هذه المفاوضات مع إسرائيل في غضون أسبوعين على الأقل.
كما أن العقوبات المالية الأميركية أضحت أمراً يلازم سواء المبادرة الفرنسية بنسختها الحالية أو «مفاوضات الإطار»، وواشنطن تريد استخدامها كأداة لحشد الدعم للخيارات الإسرائيلية على الطاولة المستديرة غير المباشرة ومحاولة «زرك» اللبنانيين من أجل تشكيل حكومة تراعي الشروط الأميركية ولو بالحدّ الأدنى. انطلاقاً من كل هذا بات الشأن اللبناني خاضعاً لمنطق التدويل أكثر من ذي قبل.