نصح الصحافي الأميركي البارز توماس فريدمان دبلوماسياً خليجياً: اقرأ «لعبة الأمم» لمايلز كوبلاند. ربما سيكون باستطاعتك، آنذاك، أن تقرأ ما ينتظركم قبل نهاية هذا العقد. وأضاف: المنطقة كلها على كومة الحطب، الكبار يرقصون عشوائياً حولها الى أن يحين وقت النار.
توماس فريدمان يعكس، بشكل أو بآخر، ما تقوله دراسات استراتيجية، أنه كان لا بد من وجود دونالد ترامب لتظهر الفوضى العالمية في أكثر وجوهها صخباً.
ونحن يمكننا أن نقول، إنه لا بد من ظهور ترامب، لنرى هذا الحفل الاستعراضي في حديقة البيت الأبيض، حول ما يسمى اتفاق السلام الإسرائيلي الإماراتي البحريني الذي لم تأت وثائقه على أي ذكر على الدولة الفلسطينية، ولا على وقف الضم للأراضي الفلسطينية.
في الدراسات الإستراتيجية، كما يرى فريدمان، لا حقيقة في المنطقة سوى اسرائيل. فريدمان يرى أن الأتراك والايرانيين والعرب حجارة بألوان مختلفة على رقعة الشطرنج. هؤلاء هم حجارة مايلز كوبلاند في لعبة الأمم التي طالما تقاطعت، في المنطقة، مع لعبة القبائل. كلهم يلعبون، الآن، في الجزء الخلفي من المسرح لحساب القياصرة.
لبنان، مثل سائر بلدان المنطقة، في ردهة الانتظار، كل شيء مبرمج بدقة، حتى إدارة الانهيار، ملوك الطوائف مختلفون حول الحقائب الوزارية، بينما الحديث عن مؤتمر تأسيسي، أو عقد سياسي، هو لإضاعة الوقت.
ففيما كانت حديقة البيت الأبيض تشهد على تزوير سافر لتاريخ الشرق الأوسط، بدا شد الأحزمة، هو سيد الموقف في بيروت، مع ترنح المبادرة الفرنسية على حافةِ الخمس دقائق الأخيرة من «الوقت الإضافي» الذي أُعطي لها، ودخولها عنق الزجاجة، في منطقة تشهد رمالاً متحركة ساخنة، وتخطو نحو تحولات هائلة، بعد عاصفة التطبيع التي تضرب الإقليم. ولم تفلح زيارتان رئاسيتان لماكرون وتكليف استخباراتي وتجنيدٌ دبلوماسي ودعمُ الإنتلجنسيا الفرنكوفونية في بيروت ووسامٌ حول عنقِ فيروز، في تنفيذ المبادرة الفرنسية. تزامن ذلك مع احياء لخلايا نائمة، واستهداف للجيش للبناني، وحوادث أمنية متنقلة.
وتعيش بيروت، وسط مناخاتٍ راوحتْ بين نعي المسعى الفرنسي لتشكيل حكومةِ المهمة الإصلاحية، وبين ترك نافذةِ أملٍ بمعجزةٍ تفْضي نجاح مصطفى أديب، في تشكيل حكومته في الخمس دقائق الأخيرة، بعيدا عن هيمنة الأحزاب.
صحيح أن جوهر المبادرة الفرنسية قائم على على فصل المسارات بين الجانب السياسي ببُعده الاقليمي للأزمة اللبنانية وبين الجانب التقني المالي - الاقتصادي عبر تزويد بيروت بمكابح تفرمل السقوط حتى الزوال، لكن هذا بدا محكوماً بأنياب الولايات المتحدة التي تقارب الملف اللبناني من زاوية المواجهة الكبرى مع إيران وحزب الله، والتي عكستها حزمتا العقوبات بحق مقربين لحزب الله، وهو ما أظهره بلا قفازاتٍ وزيرُ الخارجية الأميركي مايك بومبيو، رافِعاً ما يشبه البطاقة الصفراء بوجه مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون، حيث حذره صراحة بأن جهوده «قد تضيع سدى، ما لم يتم التطرق إلى سلاح حزب الله، ووضعه على الطاولة».
وهكذا أصبحت ازمة حقيبة المالية، وإصرار الثنائي الشيعي على الاحتفاظ بها، اكبر من حجم وزارة، وحتى لبنان نفسه، مع قرار طهران الواضح بقلب الطاولة والتشدّد في ظل الضربات السياسية والامنية والجيوستراتيجية المتتالية التي تتعرض لها، وسط تطويقها اميركياً، من الخليج الى العراق، وشعورها أن عاصفة التطبيع تستهدفها بشكل خاص، لتبقى الساحة اللبنانية حلبة لتصفية ما تبقى من حساب.
قابل ذلك، اصرار رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب مدعوماً من نادي رؤساء الحكومات السابقين وسعد الحريري، على عدم التواصل والتنسيق مع الاحزاب-، مستنداً الى ما قاله الرئيس الفرنسي خلال زيارته بأنه على الاحزاب ان تتنحى جانبا مؤقتاً، وإصراره بأن يسمي وحده فريق عمله الحكومي بعيداً عن تدخل السياسيين اذا كانت هناك فعلاً رغبة بقيام حكومة مهمة، وفقا للتعبير الفرنسي، وإلا فكتاب الاعتذار في جيب أديب.
حتى الساعة واضح ان الحلف القائم بين عون والثنائي الشيعي من جهة، ومن جهة اخرى بين رؤساء الحكومات السابقين والرئيس المكلّف ومن خلفهم واشنطن، تزامن مع شد حبال فرنسي - ايراني اميركي وسط انغماس واشنطن اكثر في اكثر في تفاصيل الملف اللبناني، واتهام سعد الحريري بالتشدد، وعدم قبول بقاء وزارة المالية، لدى الشيعة، نتيجة للتحريض الأميركي له.
وهذا ما يفسر التدافع الخشن على تخوم الساعات الأخيرة من المهلة الفرنسية، وسط دقّ باريس «جرسَ الإنذار» وهي تُراقِب انهيار مسعاها باحتمال اعتذار الرئيس المكلف تشكيل الحكومة .
بالنسبة لفرنسا التي دقت رأسها بالحائط اللبناني، ودخلت حقل الألغام، المسألة مسألة كرامة دولة عظمى، ساد الظن خلال زيارتي ماكرون إلى بيروت أنّ التنسيق على قدم وساق مع الأميركي. الأرجح أن الاستنتاج كان متسرعاً، فرنسا تريد قطع الطريق على انتِصار مَرحَلي للأتراك في ليبيا. المسألَة مسألة مَن يبلَع الحَوض الشرقي لبَحر الأبيض المتوسِّط أولاً.
لكن العلاقة مع حزب الله تستفز واشنطن، حتى جلسة على الواقف مع رئيس كتلة الوَفاء للمقاومة لم ترق لأميركا. فمن نتائجها تفهم فرنسا للظلم التاريخي الذي لحق بالشيعة، قوة ديموغرافية وسياسية وبيئَة مقاوِمَة مكتملة ومنظمة لا يمكِن أن تعيش على هامِش الحياة السياسية في لبنان خصوصاً في ظل ضغط غير مسبوق يهدف إلى اجتثاثها من جذورها كرمى لعيون إسرائيل.
الاحتِضان الفرنسي يُخرِج الأميركي عَن طَورِه. يفتّش عَن شَرِكَة هندسيَة ليعاقِبها. عقوبات باتَ مِن الواضِح أنَّها تهدف إلى ضرب أشخاص ومؤسسات. هي حَرب كامِلَة الأوصاف على حزب الله.
باختِصار. مبادرَة فرَنسا في الإنعاش ويقف لبنان مِن جديد أمام محكّ نِظامِه ودستورِه. في كلّ أزمَة يتّضِح أن القلَم الذي كتبَ اتفاق الطائِف لَم يكمِل الجملَة. تَرَكها عرضَة للاجتِهاد والفوضى.