عولمة الـكورونا، ونهاية العالم

عولمة الـ"كورونا"، ونهاية العالم

عولمة الـ"كورونا"، ونهاية العالم

 لبنان اليوم -

عولمة الـكورونا، ونهاية العالم

عبد الغني سلامة
بقلم - عبد الغني سلامة

راج مصطلح "العولمة" في تسعينيات القرن الماضي، ولم يكن حينها واضحاً بالقدر الكافي، البعض عرّفها بانسياب الأفكار والمنتجات والمهارات والأموال بين الدول والشعوب، بحيث تكون عابرة للحدود والقارات، وإلغاء للحدود المصطنعة بين الشعوب، بدرجة عالية من الانفتاح، بحيث تعزز التعاون والتضامن والارتباط بينها؛ وبالتالي فهي ليست منظومة حكومات، بقدر ما هي اتفاق ضمني بين الشعوب. وآخرون اعتبروها مؤامرة إمبريالية، أو نهاية التاريخ.
اليوم، مع تفشي وباء الـ"كورونا"، اتخذ أغلب الدول تدابير احترازية، أهمها إقفال حدودها، ومنع السفر منها وإليها، حتى تقوقعت كل دولة على نفسها، وبذلك كشفت الجائحة ضعف وهشاشة نظام العولمة وفلسفتها، لدرجة أن البعض اعتبر ذلك سقوطا للعولمة، خاصة الوطنيين والقوميين والإسلاميين واليمينيين، وكلٌ حسب منطلقاته وتوجهاته.
اليمين الشعبوي فرح بهذه المقولة، ورأى فيها فرصة لغلق الحدود أمام المهاجرين واللاجئين.. القوى الوطنية والقومية أخذت تعزز من أطروحاتها الشوفينية والعنصرية.. الإسلاميون هللوا لسقوط الرأسمالية، باعتبار أن سقوطها يعني تلقائيا فرض البديل الإسلامي.. البرجوازيات المحلية اعتبرتها مبرراً لفرض المزيد من القيود على التجارة العالمية.
ولا شك في أن أزمة الـ"كورونا" سلطت الضوء على الجوانب السلبية للعولمة، وأبرزت مثالب ونواقص الرأسمالية، وأظهرت توحشها بصورة سافرة.. ولكن الحديث عن نهاية العولمة وسقوط الرأسمالية ما زال مبكراً جداً.. وليس في الأفق ما يؤكد أنّ ذلك سيحصل فعلاً.
العولمة بحد ذاتها، لم تكن قراراً اتخذته قوى عالمية؛ العولمة مرحلة من مراحل تطور المسيرة الإنسانية، أتت تتويجا لعصر الرأسمالية والنيوليبرالية، سبقتها مراحل، وستتبعها مراحل.
وحسب الفهم المادي للتاريخ، بدأت البشرية بمرحلة المشاع، ثم العبودية، فالإقطاع، حتى وصلت "الرأسمالية".. وفي الفهم الماركسي، تأتي "الاشتراكية" على أنقاض الرأسمالية، لتتبعها "الشيوعية"، كمرحلة تمثل نهاية التاريخ.
وبمناسبة الحديث عن نهاية التاريخ، سنجد العديد من التصورات، منها تصورات "غيبية" مثل "هرمجدون"، و"يأجوج ومأجوج".. ومنها تصورات مادية، للذين فهموا حركة التاريخ باعتبارها معركة جدلية بين الأطروحات الأيديولوجية المتناقضة (صراع الحضارات)، فإذا تنبأ "ماركس" بالشيوعية كمرحلة أخيرة، فإن "فوكوياما" بشّر بأن التاريخ سيصل إلى نهايته بانهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط الدول الشمولية، وسيبدأ عصر جديد تحل فيه الليبرالية، ويحصل فيه توافق عالمي حول المثل الديمقراطية. وطبعا هناك أطروحات "إسلامية"، تقول إن عودة النظام الإسلامي (الخلافة) مسألة حتمية، وستمثل نهاية التاريخ.
على أية حال، لو نظرنا إلى مجمل التاريخ الإنساني، سنجد أن عمليات الانتقال من عصر إلى آخر لم تكن تتم دفعة واحدة، ولا على شكل قفزات، بل كانت العصور تتوالد من بعضها، وثبت أن حركة التاريخ تسير دوما في اتجاه لولبي صاعد، وكل مرحلة تاريخية بقدر ما تفرض أخلاقياتها وفلسفتها، كانت تحمل بعض سمات ما سبقتها، وتحمل في أحشائها سمات المرحلة القادمة، وحتمية قدومها.
بمعنى أنه لم يحدث في نهاية كل مرحلة أن اجتمعت الدول أو النخب، ليقرروا إنهاء مرحلة، والبدء بمرحلة جديدة، هذا قد يحدث على مستوى محلي، لكن على نطاق عالمي، المسألة أعقد بكثير.. كما أن الشعوب لم يكن متاحاً لها مناقشة خياراتها، وتقرير أي نظام، أو أي مرحلة هي الأفضل.. حتى النخب الفكرية، كانت تطرح تسميات لمراحل جديدة، دون القدرة على تعريفها بالضبط، مثل "ما بعد الحداثة"، "ما بعد الصهيونية"، "ما بعد النيوليبرالية".. تسميات استباقية تدل على غموض سمات المرحلة التي يتحدثون عنها، كما يحصل الآن في تسميات ما بعد العولمة، وما بعد الـ"كورونا".
حتى بدايات القرن العشرين، كانت حركة السفر محدودة جداً، ولم تكن السياحة في برامج حياة الناس، وكان التنقل من منطقة إلى أخرى مكلفاً وشاقاً، وغير متاح سوى لقلة قليلة من الناس، مثل التجار والبعثات الدبلوماسية.. وكانت القيود الحكومية على التنقل مشددة.. فمثلاً ظل الصينيون والسوفييت داخل بلدانهم الشاسعة، ولم يغادروها قط، اليابان كانت معزولة تماما عن العالم، معظم الناس لم يكونوا يعرفون غير مسقط رأسهم، ونادراً ما يشاهدون أجنبياً داخل أوطانهم؛ دول وجزر كثيرة كانت مجهولة.
في العقود الأخيرة تحول العالم إلى دنيا جديدة، دنيا منفتحة بلا حدود، صار السفر سهلاً، وتنقل البضائع والخدمات ليس متاحا فقط، بل صار ضرورة حتمية.. بمعنى أن الكرة الأرضية دخلت مُرغمةً في مرحلة جديدة عنوانها "العولمة".. ساهمت في هذا التحول عوامل وقوى كثيرة؛ فإذا كانت التجارة الدولية، والسياحة، والتبادل الثقافي، والتعاون بين الشعوب، والسينما، والرياضة، والفنون، والموضة، والماركات التجارية، والإعلام، والتكنولوجيا، وثورة الاتصالات والمواصلات.. قد أنتجت عولمة سعيدة؛ فإن الشركات الاحتكارية العابرة للقارات، والمافيات الدولية، والقوى الإرهابية، والحروب، والأوبئة، والتغير المناخي..أنتجت عولمة بائسة، وشقية.
أي أن العولمة خلقت مجالات جديدة ومختلفة للعلاقات الإنسانية، بمفاهيم وحركة مفتوحة بين قارات العالم غيرت كل شيء.. وهذه العولمة لها سيئاتها، وحسناتها.. فمثلاً، اليوم، بفضل العولمة، وانتشار وسائل الإعلام، خاصة إعلام المواطن، لم يعد بوسع النظم الاستبدادية اقتراف جرائمها، كما كان يحصل سابقاً، فلم يعد بالإمكان إخفاء شيء.
وفي جانبها الاقتصادي، وهو الأهم، خلقت العولمة سوقاً دولياً، ما اضطر المصنعين لبناء سلاسل توريد متصلة، وصارت الشركات تقسّم العمل المعولم، ما أنتج نظاماً معقداً من الاعتماد المتبادل، فنشأت شبكة مترابطة من الإنتاج شملت الاقتصاد العالمي كله، بحيث لم يعد ممكنا تصنيع مكونات منتج دون الاستعانة بعشرات الدول، وصارت الدول أكثر اعتماداً على بعضها البعض، ولا تستطيع أي دولة السيطرة على جميع السلع والمكونات التي تحتاجها، وأدمجت الاقتصادات الوطنية في شبكة عالمية واحدة، وصار اقتصاد الدول الكبرى يؤثر على مجمل الاقتصاد العالمي.. وتلك نقطة ضعف خطيرة.
في جانبها الإنساني، نرى العالم بأسره يشترك في حالة طوارئ واستنفار وتحالف، ضد عدو واحد؛ فجائحة الـ"كورونا" ستساعد على المدى البعيد في خلق وتطوير وعي إنساني مشترك، وكلما عانى الناس في جميع البلدان من الصدمات نفسها، كانوا على اتصال أعمق مع بعضهم بعضاً، وأصبحوا ضمن مجتمع عالمي مصغر، يحتاج تعاون الجميع.
"كورونا" الآن، هو الحدث السياسي والاقتصادي الأهم، الذي سيقود أغلب التحولات المحتملة في العقد المقبل، وفي أعقابها سيتشكل نظام جديد للعولمة، لكنه لن يكون نهاية للتاريخ.
 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عولمة الـكورونا، ونهاية العالم عولمة الـكورونا، ونهاية العالم



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:43 2022 الإثنين ,09 أيار / مايو

أفضل النظارات الشمسية المناسبة لشكل وجهك

GMT 16:11 2023 الإثنين ,10 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الاثنين 10 أبريل / نيسان 2023

GMT 17:41 2020 الجمعة ,11 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي على أنواع الشنط وأسمائها

GMT 00:08 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

وزارة الصحة التونسية توقف نشاط الرابطة الأولى

GMT 09:34 2024 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

بريطانيا تُحقق في اغتصاب جماعي لفتاة بعالم ميتافيرس

GMT 12:31 2022 الأحد ,10 تموز / يوليو

أفضل أنواع الماسكارا المقاومة للماء

GMT 08:54 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

جينيسيس تكشف عن G70" Shooting Brake" رسمياً

GMT 20:21 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

توقعات الأبراج اليوم الأربعاء 3 مايو/ أيار 2023

GMT 08:48 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

أبرز العطور التي قدمتها دور الأزياء العالمية

GMT 10:23 2022 الثلاثاء ,17 أيار / مايو

توبة يتصدر ترند تويتر بعد عرض الحلقة 26

GMT 08:47 2024 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

قائمة المنتخبات العربية الأكثر حصاداً للقب أمم أفريقيا
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon