الميثولوجيا الدينية

الميثولوجيا الدينية

الميثولوجيا الدينية

 لبنان اليوم -

الميثولوجيا الدينية

عبد الغني سلامة
بقلم : عبد الغني سلامة

الميثولوجيا مصطلح يوناني يعني الأسطورة؛ أو هي حكايات شعبية فولكلورية تخص منطقة معينة، قد تكون وصفاً لأحداث حقيقية جرت بالفعل، أو من نسج الخيال، لكن الناس وعبر تناقل الحكاية فيما بينهم، ومن جيل إلى آخر أضافوا إليها، وبالغوا في وصف مجرياتها، وتعظيم قدرات وسمات شخوصها وأبطالها. وغالباً ما تتضمن الأساطير آلهة، أو كائنات، أو أبطالاً، أو أحداثاً لا يمكن للعقل العلمي تصديقها نظراً لشدة غرابتها، وتناقضها مع نواميس الطبيعة والكون.

وقد وظف الإنسان الميثولوجيا لبناء فلسفته الخاصة لفهم بعض الظواهر الطبيعية، أو للإجابة على أسئلته المحيرة، من مثل: من خلق الكون؟ أين سنذهب بعد الموت؟ كيف نشأت الحياة؟ كما وظفها لتبرير وإدامة نظم اجتماعية معينة، من خلال تكريس عادات وطقوس وممارسات، من شأنها تثبيت النظم السياسية والمفاهيم الاجتماعية والدينية القائمة. والميثولوجيا اليوم علم قائم بذاته، يدرس ويفسر الأساطير القديمة.

وحسب التعريف العلمي للميثولوجيا، ليس بالضرورة أن تكون الأسطورة كاذبة؛ فقد يكون لها أساس تاريخي، وأشخاصها حقيقيين، وبغض النظر عن حجم المبالغات فيها، المهم أنها أصبحت «قصة مقدسة»، أو جزءا من التراث الشعبي الشفهي؛ لذا قد يستخدم البعض كلمة «أساطير دينية» دون قصد الإساءة إلى الدين، أو التشكيك بصحتها.

تتميز الأسطورة عن الحكاية الشعبية بتضمنها جانباً فلسفياً عميقاً، إضافة لقيمتها الأدبية والجمالية. كما تختلف عن الخرافة، فعند العرب الخرافة هي الكلام المستملح المكذوب، أي الحديث غير الواقعي لكنه ظريف، و»خرافة» كان رجلاً من قبيلة عذرة، ادعى أن الجن أسرته، فمكث عندهم دهراً، ثم ردوه إلى عالم الإنس، فصار يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة. أما الحكاية البطولية، ففيها بعض سمات الخرافة كالإغراق في الخيال، وبعدها عن الواقع، إلا أن لها أصلاً في الحقيقة الموضوعية، ولكنه ضخّم وبولغ فيه كثيراً.

في بدايات عصر الأنسنة كان دور الأسطورة تفسير القوى العظمى التي خلقت الكون والطبيعة، أو التي تسيرها، لذا ارتبطت الأسطورة قديما بالآلهة.. وبعد أن أجابت الأديان على سؤال خلق الكون (وهو الله سبحانه) لم تعد الأسطورة مقترنة بالآلهة، أو بأنصاف الآلهة والكائنات الخرافية، بل صارت مقترنة بالأنبياء والمصلحين والفلاسفة والحكماء والأبطال الشعبيين.. لكن الأساطير ظلت ولفترات طويلة مقترنة بالحيوانات (الحية، الغراب، الثور، الهدهد، وبعض الحيوانات الوهمية كالتنين، والحصان المجنح، والأفعى ذات السبعة رؤوس..)..

وكانت الحاجة ملحّة لبناء مثل تلك الأساطير، ونسج القصص حولها، وجعلها مقترنة بفهم ظواهر الطبيعة، وللإجابة على الأسئلة الوجودية والفلسفية والدينية، لأن العقل البشري آنذاك كان محدود القدرات، مقارنة بالحاضر، وقاصراً عن فهم المجرد والمنطقي.. فالخالق العظيم غير مرئي، وغير متجسد، لذا فإن استذكاره عبر الرسل والمصلحين والأولياء يسهل على الناس فهم تعاليم الدين، أو فهم ما عجزوا عنه بالتجريد، أو لجعل الدين مقترناً بحياتهم وجزءاً منها، بدلاً من كونه مفارقاً ومنعزلاً عنهم، وموجوداً فقط في النظريات والكتب المقدسة.

وهذا يفسر إصرار الخيال الشعبي والثقافة الشعبية على الاهتمام بالأولياء والصالحين وأضرحتهم.. هذا الاهتمام ينتقل وبشكل تصاعدي من الاهتمام بالخالق ورسالته، إلى أنبيائه وسيرهم، ومن ثم إلى تابعيهم، لأنهم الأقرب (فيزيائيا وزمانيا) إلى الناس في كل مرحلة تاريخية.. حيث يتم نسب المعجزات والكرامات والخوارق إلى هؤلاء، لأن المعجزة المادية الملموسة أكثر إقناعاً من الكلام المجرد..

خاصة عند عامة الناس، الذين يستريحون أكثر للغيبي والخارق والخارج عن المألوف مقارنة بالفهم العقلاني المجرد الذي يتطلب اقتناعاً وتفكيراً وإعمالاً للعقل..
وقد لعبت الميثولوجيا دوراً مهماً في بناء الحضارة الإنسانية، فمثلاً شكلت حافزاً لبناء المعابد والصروح والأهرامات والقلاع والتماثيل والنصب والأبراج، وغيرها من المعالم الأثرية الجميلة.. وكان لها دور في عمليات التأريخ والأرشفة، رغم أنها ضللت الكثير من الباحثين والمؤرخين، نظراً لحجم الزيف والمبالغات فيها، لكنها تظل مادة ممتازة للسؤال والبحث والتنقيب، بما يمكّن من بناء تصور تاريخي حقيقي اعتماداً عليها، أو على نقدها وتفنيدها.. كما نقلت الميثولوجيا الأدب إلى مكانة رفيعة، فقد شكلت أساسا لمراكمة التطور الأدبي، وصولا للرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح والدراما بالشكل الذي نعرفه اليوم.

لذا، تكون الميثولوجيا مفيدة عندما نتعامل معها كقصص رمزية، لأخذ العبر منها، واستخلاص الدروس والحكم، أو للمتعة والمؤانسة.. لكنها تصبح مضرة وخطيرة، عندما تكتسب القداسة، وتصبح قصصا مقدسة، لا يجوز التشكيك بها، أو مناقشتها. وتصبح خطيرة أكثر عندما تُبنى عليها أيديولوجيا عنيفة ومتعصبة وعنصرية، أو تصبح مصدراً رئيساً للحكمة والمعرفة والتفسير العلمي.. أي عندما تغدو مسلّمات، وتابوهات، وبديلاً عن العقل العلمي والنقدي.. وعندما تصبح قيودا تشد إلى الماضي، بدلاً من الانطلاق للمستقبل، وعندما يقتصر الخيال البشري على نسج الأساطير ببراعة، بدلاً من إطلاقه بحرية لحل المشكلات والتخطيط للمستقبل.

وفي النسخ الشعبية التقليدية لأي معتقد ديني قديم أو معاصر ستجد الكثير من الأساطير، سواء نصا أم تأويلاً، والتي لا يكتمل إيمان المرء إلا بالتسليم بها، وليس المقصود هنا الغيبيات، بل التأويلات والتفسيرات المبنية على فكر أسطوري، والأحداث والسير شبه التاريخية والتي لا يمكن الاستدلال على صحتها بالأدلة العلمية والأركيولوجية والبراهين العقلية، وهي التي تكتسب بمرور الوقت بعداً قداسياً وتحريمياً.

اليابان والصين وكوريا من أكثر بلدان العالم تطوراً وتقدماً، صناعياً وتكنولوجياً وعلمياً، مع أن ثقافاتها تزخر بالكثير من الأساطير، لكنهم يتعاملون معها كتراث وفلكلور شعبي، يحيونها في مناسبات محددة.. ولا يسمحون لها بدخول مختبراتهم ومصانعهم وأبحاثهم..

اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، آن لنا أن نضع الميثولوجيا في سياقها التاريخي والفلكلوري فقط، فالتقدم وولوج المستقبل يحتاج إلى العلماء الحقيقيين، والعقلية النقدية، والمنهج العلمي الصارم، والتفكير العقلاني المنطقي، والتحرر من قيود التابوهات والأساطير.. وهي أمور غالباً ما تكون غائبة عن العقلية العربية، وغيابها أهم أسباب تأخرنا، وعجزنا عن اختراع شيء حقيقي ذي قيمة.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الميثولوجيا الدينية الميثولوجيا الدينية



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 19:20 2022 السبت ,07 أيار / مايو

أفضل أنواع الهايلايتر لجميع أنواع البشرة

GMT 20:55 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

المغربي أمرابط الأكثر صناعة للاهداف في الدوري

GMT 14:41 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

اكتساح إيطالي لحكام مباريات الديربي

GMT 17:13 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

التونسي الشرميطي يعرض إصابته على طبيب المنتخب

GMT 21:50 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الصربي ألكسندر كولاروف الحالة التاسعة لـ كورونا في إنتر ميلان

GMT 14:29 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي علي تجهيزات العروس بالتفصيل

GMT 23:54 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

المغربي حمد الله يفوز بجائزة الأفضل في شهر آذار
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon