العرش البريطاني «صمام أمان» للديمقراطية في وجه التطرف

العرش البريطاني «صمام أمان» للديمقراطية في وجه التطرف

العرش البريطاني «صمام أمان» للديمقراطية في وجه التطرف

 لبنان اليوم -

العرش البريطاني «صمام أمان» للديمقراطية في وجه التطرف

إياد أبو شقرا
بقلم - إياد أبو شقرا

خلال يومين فقط، اقترع قسمٌ كبيرٌ من البريطانيين مجالسَهم المحلية، وبعد ساعات معدودات شهدت بريطانيا الاحتفال الرسمي الباذخ بتتويج الملك تشارلز الثالث.

حدثان مهمان لا يقعان عموماً إلا في ديمقراطية عريقة مثل بريطانيا تغلب فيها الاستمرارية على الاعتراض، وتتعايش فيها التقاليد الملكية والكنسية جنباً إلى جنب مع السياسات الراديكالية – يميناً ويساراً – التي تتنامى راهناً في الكثير من الدول.

بين الحدثين، يفهم المواطن البريطاني أنَّ السلطة المؤسساتية من جهة وديناميكية التداول السلمي للحكم عنصران لا بقاء لأحدهما من دون الآخر. فمنذ «الماغنا كارتا» (الشرعة الكبرى)، ولاحقاً إعادة الملكية في عهد الملك تشارلز الثاني بعد «الهزة» الانقلابية الكرومويلية، غدت الملكية «صمام أمان» ونظام «امتصاص صدمات» يسموان على التناقضات وتضارب المصالح، وبالأخص، عند تزايد الاستقطاب والاقتراب من التصادم.

في ظل هذا الواقع نجحت بريطانيا، تاريخياً، في السير قدماً عبر «التطور» Evolution لا «الثورة» Revolution، حيث أخفقت «جاراتها» ومنافساتها الأربع الأكبر في أوروبا الغربية... أي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا.

ألمانيا وإيطاليا اللتان جُمعتا من مكوّنات وأشتات خلال القرن الـ19، سرعان ما تحوّلتا إلى «مشاريع أحلام إمبراطورية»، جرمانية ورومانية. ومن ثم، انحرف مشروع الحلم المترنيخي الجرماني العاقل إلى نزعة هتلرية نازية، وشوّه مشروع ماتزيني وغاريبالدي وكافور نفسه لينتج لوثة موسولينية فاشية.

فرنسا، أيضاً، لم تسلم من الطموحات «الشخصانية» المتضخمة وشططها، فدفعت على مراحل فواتير مكلفة وسط ارتباك الخرائط وتبدل موازين القوى بين كيانات غرب أوروبا ووسطها. وبالنظر إلى موقع فرنسا الوسيط بين شبه الجزيرة الإيبيرية جنوباً وشبه الجزيرة الإيطالية شرقاً والحيّز الألماني شمالاً، ترابطت الحالات الانفصالية في كل الاتجاهات، داخل فرنسا وعبر خطوط حدودها غير المستقرة، وبالأخص، بعد حقبة نابليون بونابرت... ابن جزيرة كورسيكا.

وها هي إسبانيا، التي ما إن خرجت من حروبها الاستعمارية والأهلية، حتى حكمتها ديكتاتورية فرنشيسكو فرانكو لعقود. واليوم تكافح سلطات مدريد على جبهات عدة؛ أملاً في أن تنقذها «أوروبا الموحّدة» من مطامح الانفصاليين في بلاد الباسك وإقليم كتالونيا.

بريطانيا، بلا شك، دولة تعددية قد لا تقل هشاشة عن «جاراتها» الأربع. غير أن ما حال دون انزلاقها إلى استقواء انفصالييها بالسلاح – باستثناء الأزمة الآيرلندية التي احتُفل أخيراً بالذكرى السنوية الـ25 لاتفاق سلامها – هو استقرار نظامها السياسي، ووجود «صمام الأمان» الذي يمنع تراكم مشاعر الغبن والمرارة.

العرش البريطاني، والاستقرار الذي رعاه وبات يرمز إليه، نجحا حتى اللحظة في كبح جماح التطرف حتى داخل الأحزاب البريطانية الرئيسة: المحافظون والعمال والديمقراطيون الأحرار (ورَثة حزب الأحرار التاريخي).

الأحزاب البريطانية الثلاثة الأكبر احتكرت الحكم طيلة القرن الـ20 وحتى اليوم. ثم إن رئيسي الحكومة المحافظ والعمالي الأطول بقاءً في السلطة منذ مطلع ذلك القرن لم يسقطا إثر هزيمة حزبيهما أمام الحزب المنافس، بل أنهى حزب كل منهما بنفسه حكم زعيمه.

فقد قرّر المحافظون عام 1990 أن إفهام مارغريت ثاتشر بأنها بعد أكثر من 11 سنة في السلطة ليست أكبر من حزبها. وحقاً، دفعها إلى الاستقالة واختار جون ميجر بديلاً لها. والشيء نفسه فعله حزب العمال مع زعيمه توني بلير عام 2007، بعدما حكم تحت رئاسته البلاد لأكثر من 10 سنوات... وأيضاً لتذكيره بأن مصلحة الحزب أقوى وأبقى من زعامته.

المحافظون في أواخر عهد ثاتشر شعروا، عبر استطلاعات الرأي والانتخابات المتتالية، بأن بعض شارعهم أخذ يتبرّم من سياسات اليمين المتطرف، وهذا بينما أزاح حزب العمال قياداته اليسارية المتشددة، وأخذ يعود تدريجياً إلى مواقع الوسط.

توقيت إسقاط ثاتشر كان جيداً لأنه أتاح للمحافظين بقيادة ميجر الفوز في الانتخابات العامة التالية بغالبية بسيطة. وبعدها لم يسترجع اليمين المتطرف الهيمنة على قيادة الحزب إلا بعد ركوبه موجة الشعبوية الجامحة ضد الهجرة والعمالة الأجنبية في استفتاء «بريكست» للخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي عام 2016. وجاء هذا بالتوازي مع ارتفاع أصوات اليمين المتطرف والفاشيين الجدد في دول أوروبية كثيرة.

للعلم، فاز المحافظون بالانتخابات العامة عام 2017 تحت قيادة الزعيمة التوافقية تيريزا ماي، متغلبين على العمال بقيادة اليساري جيريمي كوربن. ولاحقاً، بعد «إنجاز» الانسحاب من أوروبا، وابتعاد الكثير من معتدلي المحافظين وعقلائهم عن الصفوف الأولى، عام 2020، خلت الساحة لـ«الجيل الثاني من الثاتشريين» المتطرفين يميناً والمعادين لأي تقارب أوروبي.

وازداد اندفاع المحافظين إلى اليمين تسارعاً بعد انتخابات عام 2019، التي قاد فيها بوريس جونسون - اليميني الشعبوي – الحزب إلى نصر كاسح على «العمال» وجيريمي كوربن. وكان هذا الأخير، قبل بضع سنوات، «تجسيداً» لانقلاب العمال على معتدليهم والانقياد لشعبوييهم اليساريين المتطرفين. وما يجدر ذكره هنا أن كثرة من هؤلاء اليساريين أيدت الانسحاب من أوروبا بحجة حماية وظائف العمالة المحلية غير الماهرة... التي أخذت تهدّدها العمالة الرخيصة الوافدة من دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

ولكن، بعد هزيمة العمال المذلة عام 2019، اضطر كوربن للتنحي، واختير المعتدل كير ستارمر زعيماً جديداً بدلاً منه. وباشر ستارمر على عجل تصفية نفوذ «الكوربنيين» ومواقعهم، واعتمد سياسات تعيد إلى الأذهان سياسات توني بلير وغوردن براون الرابحة في أواخر عقد التسعينات.

وبالأمس، في الانتخابات المحلية تمكّن العمال من التغلب على المحافظين، وأحكموا سيطرتهم أو استعادوها في معظم مدن إنجلترا الكبرى. فقد فاز العمال بـ71 مجلساً محلياً (كسبوا 22 مقارنة بالانتخابات السابقة، مقابل 33 فقط فاز بها المحافظون (خسارة 48) وفوز الديمقراطيين الأحرار (الوسطيون) بـ29 مجلساً (كسب 12).

هذه النتيجة قد لا تترجَم تماماً بالضرورة في الانتخابات العامة المقبلة، لكنها تعطي فكرة واضحة عن المزاج الشعبي الذي ضعفت ثقته بحزب محافظ غيّر 3 رؤساء حكومات خلال شهرين. وهو، بتطرف شعبوييه مقابل اعتدال خصومه، سهّل لخصومهم تبادلهم التكتيكي للأصوات ويسر عليهم الانتصار عليه.

«خيمة الاستقرار» التي توفرها في بريطانيا «مرجعية» العرش أتاحت في الماضي، ولا تزال تتيح، ممارسة اللعبة السياسية ضمن ضوابط ومعادلات. ولئن كان متطرفو اليمين ومتطرفو اليسار قد حصلوا بين الفينة والفينة على فرص لتحقيق الغلبة، فقد أثبتت الأيام أن آليات هذه اللعبة تظل مضبوطة وتحت السيطرة في ظل «خيمة» تلك «المرجعية».

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العرش البريطاني «صمام أمان» للديمقراطية في وجه التطرف العرش البريطاني «صمام أمان» للديمقراطية في وجه التطرف



GMT 19:57 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 19:20 2022 السبت ,07 أيار / مايو

أفضل أنواع الهايلايتر لجميع أنواع البشرة

GMT 20:55 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

المغربي أمرابط الأكثر صناعة للاهداف في الدوري

GMT 14:41 2019 الجمعة ,29 آذار/ مارس

اكتساح إيطالي لحكام مباريات الديربي

GMT 17:13 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

التونسي الشرميطي يعرض إصابته على طبيب المنتخب

GMT 21:50 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الصربي ألكسندر كولاروف الحالة التاسعة لـ كورونا في إنتر ميلان

GMT 14:29 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي علي تجهيزات العروس بالتفصيل

GMT 23:54 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

المغربي حمد الله يفوز بجائزة الأفضل في شهر آذار
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon