العلمانية بين طلال أسد والإسلاميين

العلمانية بين طلال أسد والإسلاميين

العلمانية بين طلال أسد والإسلاميين

 لبنان اليوم -

العلمانية بين طلال أسد والإسلاميين

بقلم ـ خالد الدخيل

إذا كان السجال حول الدولة، مفهوماً وتجربة، وتحديداً حول العلمانية، لم يتوقف في الغرب منذ عقود طويلة، فمن الطبيعي أن يستمر هذا السجال في العالم العربي. وذلك لأن الدولة (أيضا تجربة ومفهوما كموضوع للعلمانية) كانت ولا تزال الأس الأول للمأزق الذي يمر به هذا العالم منذ ما قبل العصر الحديث إلى يومنا هذا. هناك فرق واضح بين الجدل هناك، والجدل هنا. في الغرب الحديث يتمحور الجدل في شأن العلمانية حول مسائل مثل الحقوق، والمواطنة، والعدل، ودرجة التمثيل، والقانون، والتعددية... الخ. في العالم العربي يتمحور الجدل في جله في شأن الموضوع نفسه أيضاً حول الحقوق والعدل والقانون، لكن من خلال علاقة كل ذلك بالشريعة الإسلامية ومقتضياتها. بعبارة أخرى، ينصب جل اهتمام هذا الجدل على إطار العلاقة بين حقوق الله وحقوق الإنسان (الطبيعية والسياسية وغيرها). وعلى أساس من هذه العلاقة نشأ وتشكل الخلاف حول العلمانية بين الإسلاميين بمختلف تياراتهم، وبين من يختلف معهم من غير الإسلاميين، أيضاً بمختلف تياراتهم وانتماءاتهم.

أستاذ الأنثروبولجيا طلال أسد من بين أهم الأصوات التي أخضعت النموذج العلماني الغربي لنقد أكاديمي دقيق في كتابه (تشكلات العلماني، أوFormations of the Secular). في نقده القوي لهذا النموذج يركز أسد على أعمال تشارلز تايلور، وهوزيه كازانوفا، باعتبارهما من بين أبرز من تناول العلمانية في الغرب. حيث يأخذ على نموذج العلمانية الذي يقدمانه في كتاباتهما أنه نموذج نظري لا يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الغربية، وبخاصة ما يتعلق منه بالعملية السياسية في هذه المجتمعات (من انتخابات وتشريع وصناعة قرارات داخل الحكومة، وتوزيع سلطات)، ودور التمايزات الدينية والإثنية والطبقية في تشكيل طبيعة وحقيقة هذه العملية. من ناحية ثانية يشير أسد إلى أن عودة تسييس الدين بقوة في المجتمعات الحديثة ينسف فرضية العلمانية كما يقدمها كازانوفا. وترتكز هذه الفرضية على ثلاثة عناصر: تطور الاختلافات البنيوية في المجتمعات الحديثة بما يؤدي إلى فصل الدين عن السياسة، وعن الاقتصاد والعلم... الخ. العنصر الثاني تعاظم خصوصية (فردية) الدين بحيث يبقى محصوراً في المجال الديني الخاص بالفرد، معزولاً عن المجال العام. وبالتالي، الثالث، تراجع الأهمية الاجتماعية للمعتقد الديني وما يفرضه من التزامات، ويتطلبه من مؤسسات. انفجار تسييس الدين في المجتمعات المعاصرة، كما يرى أسد لم يترك مكاناً لهذه العناصر في هذه المجتمعات.

هل معنى هذا أن العلمانية في العصر الحديث مجرد تصور لا وجود له على أرض الواقع؟ يسارع أسد إلى نفي ذلك. العلمانية موجودة وفاعلة، لكن وجودها (كمفهوم وكتجربة) لا يمكن أن يكون فاعلاً بمعزل عن الدين، كما يوحي بذلك نموذجها لدى تايلور وكازانوفا. بعبارة أخرى، التمايز البنيوي للمجتمعات الحديثة الذي فرض تمايز الاقتصاد عن السياسة، والتعليم عن الاجتماع، والسلطات التشريعية عن التنفيذية، إلى غير ذلك، ثم تمايز كل ذلك عن الدين، لا يعني أن الأخير لم يعد موجوداً في معادلة السلطة والسياسة، أو خارج التأثير في مجريات الأمور في كل تلك المجالات. هنا تبدو إضافة طلال أسد في الجدل حول هذه المسألة. فإذا تبين أن فرضية العلمنة لم تعد مقنعة تماماً كما كانت عليه من قبل، فإن هذا لا يعني أنها ليست صحيحة، بل يعود إلى تداخل مجالي الدين والسياسة أكثر مما كان يبدو في الظاهر.

ما يقوله أسد في هذه المسألة لا يتصادم تماماً مع فكرة العلمانية، وإنما هو محاولة لتصويب المفهوم، وجعله أكثر اتساعاً ورحابة مما هو عليه الآن. وما لم يشر إليه في نقده هنا هو التغير، إذا كان هناك من تغير، لمفهوم وفاعلية الدين في العصر الحديث اللتين تختلفان عما كان عليه هذا المفهوم وتلك الفاعلية في العصور قبل الحديثة. وإلا كيف استطاع الدين أن يفرض نفسه على العملية السياسية في المجتمعات الحديثة، رغم الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة، والتي لا يبدو أن لها سقفاً واضحاً حتى الآن. لا بد أنه فعل ذلك بالتأقلم، في شكل ما، مع متطلبات وحدود وقيم هذه المجتمعات وما جربته من ثورات فكرية وسياسية وعلمية.

مهما يكن، فإن الشاهد في أطروحة طلال أسد أنها لا تستند في نقدها لنموذج العلمانية إلى منطق ديني. على العكس من ذلك تماماً. فهي في العمق أطروحة علمانية بامتياز، تناقش المسألة من زاوية الحقوق والدستور والتمثيل السياسي وتأثرها بتباين الانتماءات الاجتماعية والدينية، وتوازنات القوة والمصلحة في إطارها الاجتماعي الأشمل. وهي أطروحة قد يبدو فيها شيء من مثالية واضحة. والرجل كعالم أنثروبولوجيا معروف بتعاطفه مع الأقليات، بخاصة العرب والمسلمين منهم في المجتمعات الغربية. وقد تناول موضوع هذه الأقليات في أحد فصول كتابه المذكور. ومن حيث أنه تعلم وعمل في الغرب، ووالده نمسوي، وأمه سعودية من مدينة حائل، يمكن القول أنه بتاريخه وتجربته يقف على حافة أكثر من ثقافة واحدة، وأكثر من من حضارة واحدة. الأمر الذي منحه ميزة النظر للموضوع من زاوية أقل ضيقاً، وأكثر موضوعية ورحابة من غيره. في الجانب الآخر، نجد أن موقف الإسلاميين، والعرب منهم بخاصة، من العلمانية يستند إلى منطق ديني تصادمي يرفض في شكل مسبق المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها المجتمعات الحديثة، بما في ذلك المجتمعات العربية، وما تسبب به ذلك من تغيرات على مفهوم الدين ودوره في هذه المجتمعات. فالغالبية على الأقل من هؤلاء تحرم العلمانية ابتداء من منطلق أنها تتعارض مع الدين الإسلامي، ومع ما هو معلوم من هذا الدين بالضرورة. هناك أمثلة كثيرة على هذا الموقف لا يتسع المقام لاستعراضها هنا. وسنتطرق إليها في مقالة أو مقالات قادمة. لكن، دونك ما قاله الدكتور محمد عمارة في كتابه «بين العلمانية والسلطة الدينية»، وهو أنه «لا مكان للعلمانية مع الإسلام، ولا حاجة للمسلمين إليها، إذا كانوا حقاً مسلمين يسترشدون بالإسلام» (ص 172).

كما ذكرت، موقف الإسلاميين يرد في حجم ضخم من الأدبيات حول الموضوع، وليس من العدل اختزاله في هذه المقالة. لكن أختم بسؤالين مهمين أمام هذا الموقف الذي لا بد من تفهمه بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه. السؤال الأول أن تحريم العلمانية يفترض بالضرورة أنها أيديولوجيا أو عقيدة تتناقض رأساً مع العقيدة الإسلامية. فهل العلمانية حقاً أيديولوجيا تبرر اتخاذ هذا الموقف منها؟ أم أنها شيء آخر؟ مبرر السؤال أن العلمانية مثلاً لا تتناقض مع الليبرالية ولا الماركسية أو الاشتراكية، ولا مع القومية. كل هذه التيارات بحمولاتها الأيديولوجية اتسعت للعلمانية. ما دلالة ذلك؟ السؤال الثاني الذي يتعلق بالتاريخ الإسلامي نفسه: هل كان في هذا التاريخ شكل من أشكال الفصل بين الدين والدولة، باعتبار أن هذا الفصل أحد أهم معالم العلمانية؟ هذان سؤالان مهمان يقتضي الأمر الفصل فيهما قبل الجزم بأن العلمانية تتعارض أو تتفق مع الإسلام. للحديث بقية.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العلمانية بين طلال أسد والإسلاميين العلمانية بين طلال أسد والإسلاميين



GMT 04:32 2018 السبت ,21 تموز / يوليو

لا حرب إيرانية - إسرائيلية

GMT 02:48 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

سورية مختلفة فعلاً

GMT 00:42 2018 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

موقف أحمد ابن حنبل من الدولة

GMT 11:25 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

كذبة الحرب الكبرى

GMT 08:49 2017 الأحد ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

خيار الحريري و«حزب الله»

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 14:00 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

نصائح "فونغ شوي" لسكينة غرفة النوم

GMT 21:05 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 09:49 2022 الجمعة ,11 آذار/ مارس

عطور تُناسب عروس موسم ربيع وصيف 2022

GMT 06:54 2023 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

قواعد وإتيكيت الحديث واتباع الطرق الأكثر أناقاً

GMT 19:56 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

الأحزمة الرفيعة إكسسوار بسيط بمفعول كبير لأطلالة مميزة

GMT 19:13 2023 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة الممثل البريطاني جوس آكلاند عن عمر يناهز 95 عامًا

GMT 12:47 2020 الأربعاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

موديلات بروشات للعروس مرصعة بالألماس

GMT 15:13 2022 السبت ,07 أيار / مايو

اتيكيت تقديم الطعام في المطاعم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon