«باريس» فى الأدب العربى الحديث
أخر الأخبار

«باريس» فى الأدب العربى الحديث

«باريس» فى الأدب العربى الحديث

 لبنان اليوم -

«باريس» فى الأدب العربى الحديث

بقلم: عمار علي حسن

أهدانى الناقد الكبير والأستاذ الجامعى البارز د. خليل الشيخ كتابه المهم «باريس فى الأدب العربى الحديث» بينما كنت منشغلا بإعداد دراسة حول طه حسين، فبرقت فى رأسى فكرة عن دور هذه المدينة فى تصور عميد الأدب العربى للعلاقة بين الشرق والغرب، وكذلك من سبقوه إليها، ومن لحقوا به.

باريس لم تكن بالنسبة لطه حسين مكان سياحة، حتى لو ساعده غيره فى وصف شىء من تفاصيله، لتصل إليه بعض لذة المبصرين، إنما كانت حلما ومعنى، ومركز اختبار لعلاقة الشرق بالغرب فى لحظة تاريخية مغايرة، إذ جاءت فى أيام كانت تتضارب فيه هذه العلاقة بين صراع وتكامل، وإقبال وإحجام، وتكيف وانعزال، وتحدٍّ وتمثل، وإعجاب ومقت، وكل مشاعر ومواقف التقلب التى يمكن أن تنشأ وتسرى بين غالب ومغلوب، تبادلا المواقع والمواضع الحضارية عبر قرون ممتدة.

لم يكن طه حسين مشغولا بالنزهة، فوقت ذهابه إلى باريس كان أهل فرنسا أنفسهم يقولون «نتمنى أن تكون باريس نظيفة مثل القاهرة»، حيث كانت شوارع الأخيرة، فى الأحياء التى بناها الخديو إسماعيل على غرار عاصمة فرنسا، تُغسل كل صباح بالماء والصابون، أما فى غيرها من الأحياء الفقيرة فقد كانت هناك زمتة وهواء فاسد وروائح مختلطة بعضها كريه، وصفه طه نفسه فى كتاب «الأيام» وصفا دقيقا مفصلا.

كانت باريس بالنسبة له «نقطة الانطلاق نحو المشروع الحضارى»، وهو فى هذا يتفق مع كثير من سابقيه، فى المقاصد والغايات، حتى لو تفاوتت أو اختلفت صيغ التعبير عنها، فرفاعة رافع الطهطاوى كانت هذه المدينة بالنسبة له «منبع العلوم والفنون والصنائع»، وعند على مبارك هى «رمز التقدم المادى»، وعند فارس الشدياق كانت «جنة النساء ومعدن العلوم واللذات»، وفى رأى فرنسيس مراش هى «الجنة ومكان تحقيق الذات»، وعند أحمد شوقى كانت «مدينة النور والقِبلة الحضارية»، واعتبرها الشيخ مصطفى عبد الرازق عاصمة الدنيا، و«الجنة التى تجب محاكاتها»، وتعامل معها محمود تيمور على أنها «منبع التجديد الفنى».

وقد انتقلت باريس لدى عميد الأدب العربى من ثالوث «العلم والفلسفة والحرية» حين وطئها أول مرة ساعيا وراء العلم، إلى ثالوث «العقل والقلب والذوق» حين أتى إليها بعد عشرين سنة ساعيا وراء نزهة لا تخلو من معرفة وتعارف، بعد أن صار هو خلال هذين العقدين مُمكَّنا فى قومه، وملء السمع والبصر فى ثقافته، ومن الأعلى صوتا والأعمق تأثيرا من بين الكتاب والمفكرين فى أهل لسانه.

وبمرور الوقت وطد طه حسين علاقته بباريس، وحاول اكتشاف مختلف أبعادها الحضارية والجمالية، فظلت بالنسبة له المدينة «الأكمل والأجمل»، وبقيت زيارته لها سنويا، برفقة أسرته، أشبه بواجب مقدس، وهو أمر تعاونت عليه العاطفة والعقل، ففيها، وبعد شهور من العزلة القاسية التى لازمه خلالها أبوالعلاء المعرى بتشاؤمه الصارم، جاء الفرح والانفتاح والبراح على يد صاحبة الصوت الساحر، التى صارت حبيبته فخطيبته ثم زوجته حتى نهاية عمره. وفيها جاء تعميق دروس التاريخ والحضارة والأدب والقانون التى بدأها قديمة تقليدية فى الأزهر وعصرية نسبية فى الجامعة الأهلية.

وهذان الأمران المرتبطان بعاصمة فرنسا: الفكر والمشاعر، ربما رسما ملامح رؤية طه حسين للعلاقة بين الشرق والغرب، لا سيما أن باريس، فى هيئتها العصرية التى كانت عليها، مثلت وقتها ذروة العطاء الحضارى المبتغى، مثلما كانت كذلك بغداد ودمشق أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، حسبما يعرف طه فى دراساته الأدبية والتاريخية والدينية.

ولعل كتاب «صوت باريس» يعكس هذا التصور، ففيه أبدى طه حسين منهجه فى النقد الأدبى والفنى، جنبا إلى جنب مع محاولة إفادة الكاتب والناقد والقارئ العربى، فى ذلك الزمن المبكر، مما وصل إليه الأدب والفن فى الغرب، عبر استعراض وتحليل ثلاث وعشرين قصة تمثيلية لأدباء من فرنسا والولايات المتحدة والمجر، تم تمثيلها على مسارح باريس. وهذا المذهب النقدى تعاون على صناعته الفكر الغربى والشرقى معا، وتلك القصص الغربية كان أهل الشرق فى حاجة إلى أن يطلعوا عليها.

وينقل عميد الأدب العربى هذه النصوص لنا، ليس من خلال ترجمة مباشرة لها عن لغاتها الأصلية، لكنه يحكيها هو بطريقته، بعد أن أنصت إليها، ووعاها، وأدرك مراميها، فوضعنا أمام الحدث الفنى للقصة، وربطها بسياقها، وأدلى برأيه فيها، ويتتبع تأثيرها. ورغم أنها صارت الآن من كلاسيكيات الأدب الأوروبى، إلا أنها دالة فى البرهنة على الدور الذى لعبته باريس فى تشكيل وعى الشرقى طه حسين بالغرب، ورغبته فى أن ينهل منه على قدر استطاعته، وينقل هذا طيعا عفيا إلى بلاده.

إن باريس على هذا النحو، صارت هى مكان الحوار الذى أقامه طه حسين بين حضارتين ومجتمعين وتاريخين إنسانيين، وهو قد وجدها المكان الأمثل لهذا الإجراء المهم، وهذه الموازنة والمواءمة التى كانت ضرورة أيامها، وربما تظل إلى الآن، فهى فى نظره عاصمة العالم الحديث ومختصره، وهو قادم من أهم عواصم الشرق فى ذلك الزمن، وهو نفسه كان الشخص المؤهل لإجراء مثل ذلك الحوار، فيما يتأمله ويُنقل عنه، إذ إنه قادم من مجال تعليم دينى تقليدى قوامه الموروث وآخر مدنى يتشكل على مهل، إلى آخر عصرى ينطلق بقوة نحو المستقبل.

وهذا المسار الحوارى استمر بعد طه حسين، إذ رأينا توفيق الحكيم يرى باريس مدرسة عظيمة لتعلم المسرح، ويراها زكى مبارك مكانا مناسبا للتعلم وتحقيق الذات، ويتعامل معها أحمد الصاوى محمد على أنها «بؤرة العالم»، لكنها لا تلبث أن تنتقل من المقدس إلى المدنس فى شعر عبد الوهاب البياتى، وتصير أيضا «مدينة بلا قلب» كالقاهرة فى شعر أحمد عبد المعطى حجازى، وينتقل دورها من الحوار إلى الاستكبار فى رؤى مالك بن نبى، ليصالحها أدونيس، ويتكيف معها، ويراها من جديد مركز الحضارة الغربية.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«باريس» فى الأدب العربى الحديث «باريس» فى الأدب العربى الحديث



GMT 19:57 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 19:29 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

الكتب الأكثر مبيعًا

GMT 11:46 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

الرئيس السيسى والتعليم!

GMT 19:13 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

أصالة ودريد فى «جوى أورد»!

ستيفاني عطاالله وزاف قصة حب تحولت إلى عرض أزياء أنيق تُوّج بزفاف ساحر

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 17:21 2021 الجمعة ,23 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 12:09 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

يسود الوفاق أجواء الأسبوع الاول من الشهر

GMT 00:18 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الأسد السبت 24 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:43 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

تزداد الحظوظ لذلك توقّع بعض الأرباح المالية

GMT 21:25 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 21:45 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

كن هادئاً وصبوراً لتصل في النهاية إلى ما تصبو إليه

GMT 21:06 2022 الأحد ,17 تموز / يوليو

القطع المناسبة لإطلالات الشاطئ

GMT 11:52 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

إتيكيت زيارات العيد

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 08:43 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

موديلات حقائب ربيع وصيف 2023

GMT 16:09 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

حلم السفر والدراسة يسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:36 2023 الأربعاء ,05 إبريل / نيسان

حقائب فاخرة لأمسيات رمضان الأنيقة
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon