بين دوتوكفيل وجورج فلويد وتل أبيب

بين دوتوكفيل وجورج فلويد وتل أبيب

بين دوتوكفيل وجورج فلويد وتل أبيب

 لبنان اليوم -

بين دوتوكفيل وجورج فلويد وتل أبيب

عاطف أبو سيف
بقلم : عاطف أبو سيف

لا يبدو أن الاحتجاجات التي تجري في الولايات المتحدة ردة فعل عفوية على حادث لا يمكن وصفه بالعرضي. المنظر البشع للشرطي الأميركي يدوس رقبة المواطن الأسود حتى يخنقه يمثل استعادة متكررة لآلاف المشاهد التي حفل بها التاريخ الأميركي منذ وطأ الرجل الأبيض القارة الجديدة وبدأ بقتل سكانها الأصليين، قبل أن يأسر رجال القارة السوداء ويأتي بهم بالسفن لترفه ورفاهيته. لا يمكن لأحد أن يتصور ما جرى. شرطي لا يأبه للأنفاس الأخيرة لرجل يموت تحت ركبته وهو يمنع عنه الحياة، لا يستمع لكل الرجاءات ولا التوسلات من المارة أن يدعه وشأنه، كما لا يهمه تأوهات الرجل الذي يغادر الحياة وهو يرجوه بأنه لا يستطيع أن يتنفس.

وربما تلك العبارات القليلة التي تمكن الرجل الأسود من لفظها وهو يحاول أن يتمسك بآخر ذرة هواء تدخل رئتيه، والتي كان في جوهرها «لا أستطيع التنفس» ستصبح واحدة من العبارات الخالدة في تاريخ الاضطهاد الأميركي للأقلية السوداء، وستضاف إلى الكثير من الجمل الخالدة التي حفل بها تاريخ صراع السود من أجل الحد الأدنى من حقوقهم مثل عبارة مارتن لوثر كنغ «لدي حلم» في خطبته الشهيرة التي بدورها تعكس كل ما يحلم به المواطنون السود في دولة تزعم أنها واحة الديمقراطية في العالم. لم يعد أحد يستطيع أن يتنفس بعد أن فقد جورج فلويد آخر أنفاسه. كأنه أخذ معه كل مقدرة الأحرار على التنفس. كان هذا النفس الأخير. وكانت تلك الكلمات الأخيرة. لم يعد ممكناً تحمل المزيد من الكلمات، أو أن تلك الكلمات لم تعد مقبولة. ومن المؤكد، وبالقدر الذي تضاف عبارات الرجل الأسود في المشهد الأخير وهو يرجوه أنه لا يستطيع أن يتنفس إلى عبارات النضال الخالدة من أجل الحقوق والحرية، بالقدر الذي يضاف فيه المشهد إلى الذاكرة الخصبة التي تزخر بالمشاهد الأكثر بشاعة ربما في التاريخ، والتي تحكي عن هذا الاضطهاد الذي تأسست عليه أميركا الحديثة والمعاصرة. وحتى في الوقت الذي يصل فيه رجل أسود إلى البيت الأبيض، فإن هذا لم يعن بأي حال نهاية العنصرية القاتلة في المجتمع الأميركي الذي أنتج نخباً سياسية وفكرية تدافع بصفاقة عن سرقة بلاد الآخرين وتدعم حقوق القوة الغاشمة في قتل الأطفال واحتلال البلاد.

لعل المواقف السياسية الأميركية التي لا يمكن إيجاد وصف حقيقي لها في قاموس الإنسانية تعكس التوجهات ذاتها التي قتلت الرجل الأسود تحت أقدام الرجل الأبيض. ويمكن تخيل كيف يشعر أصحاب القرار في البيت الأبيض وهم يرون الجنود الإسرائيليين يقتلون الأطفال الفلسطينيين أو يستمتعون وهم ينظرون إلى جرافات الكاتربلر وهي تهدم بيوت الفلاحين في القرى الفلسطينية على ساكنيها. شيء من الغبطة والفرح وربما المتعة لأن مثل هذه المشاهد هي ذاتها التي تأسست عليها الولايات التي قتلت سكان البلاد الأصليين.

وهذا يقود لمفارقة أخرى، بأن ثمة عقدة نفسية لدى الساسة الأميركيين من فكرة سكان البلاد الأصليين. هناك شبه كبير بين المشروع الصهيوني وبين مشروع بناء أميركا. المشروعان تأسسا على أنقاض شعوب البلاد الأصلية. المذابح ذاتها وعمليات التطهير العرقي ذاتها وعمليات نفي الحضور وتطوير روايات مضادة ذاتها. ثمة شبه كبير وربما خطير في استحضار المقولات المزعومة حول أرض الميعاد وعهود الرب. لقد وجد الساسة الأميركيون فيما تفعله آلة القتل الإسرائيلية استعادة لتاريخ حميم ودافئ يجب التفاخر به تحت حجة مقولة «الحلم الأميركي» الذي يعني ضمن أشياء كثيرة قتل الرجل الأصلي الذي سكن البلاد قبل وصول الرجل الأبيض.

من هنا ورغم ما في هذا التحليل من مرارة يمكن فهم وليس تفهم بالطبع النزعات البشعة للساسة الأميركيين وهم يدعمون دون تردد مواقف الاحتلال الإسرائيلي، بل ويصل الأمر ببعضهم للدفاع عن جرائم هذا الجيش ووصفها بأنها دفاع عن النفس. بل أخطر من ذلك يأتي رجل مثل ترامب ويقدم لدولة الاحتلال المزيد من التسهيلات حتى تحتل أكثر، وبصفاقة غير مسبوقة في التاريخ يوقع على وثيقة اعترافه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال في سابقة سياسية وقانونية ربما لن يجد في محاكم البشر ما يتسع لجرمه. كل هذا لأن في وجود إسرائيل وفي جرائمها ما يواسي النفس الأميركية بأن «ثمة من يفعل مثلنا وبالتالي لسنا الوحيدين» وأن التجربة الأميركية بكل ما احتوته من قتل وتشريد وذبح وقنص للرجال والنساء والأطفال الأصليين مثل قنص الحيوانات كل ذلك أمر طبيعي. فقط إسرائيل من يشعر أميركا بطبيعيتها. تجربة متشابهة وهي استعادة لشيء مفقود في تاريخ البشرية لم يتكرر قبل ذلك في التاريخ الإنساني من بمثل هذه المذابح والمآسي، لكن ثمة فرادة يجب التأكيد عليها. من هنا هذا الترابط بين ترامب ونتنياهو وهو نفس الترابط الذي كان بين كل رؤساء الولايات المتحدة وقادة المشروع الصهيوني في فلسطين.

بالعودة إلى المشهد الذي أثار الحنق والغضب بين كل إنسان يعرف قيمة أن يتنفس بحرية، فإن ثمة مشاهد كثيرة في تاريخ الاحتلال تجعل منه أمراً طبيعياً بالنسبة لترامب ورفاقه في البيت الأبيض، كما أن مشاهد أخرى موجودة في كل يوم من عمر الدولة التي تأسست على أحلام شعب آخر. الأدب الأميركي الأسود أو ما يعرف بالأدب الأميركي الأفريقي يزخر بقصص مروعة وبأوصاف مهولة لسياقات الوجود الأسود في بلاد تزعم أنها واحدة الديمقراطية.

كتب أليكس دوتوكفيل الفرنسي كتاباً عن تجربته في الولايات المتحدة، وهي عن رحلة قام بها قبل مائة وتسعين عاماً، ونشر الكتاب عام 1835 بعنوان «الديمقراطية في أميركا»، امتدح فيها ما رآه من ديمقراطية حقيقة. ورغم أن الكتاب بالنسبة لطلاب الديمقراطية والعلوم السياسية عامة فرض من الفروض إلا أن أحداً كان يجب أن يسأل الفرنسي المفتون بالتجربة الأميركية عن هذه الصورة التي لم تغب منذ وصل أول عبد أسود إلى القارة أو الدولة الناشئة: صورة استعباد غير البيض في تلك الواحة المزعومة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين دوتوكفيل وجورج فلويد وتل أبيب بين دوتوكفيل وجورج فلويد وتل أبيب



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 15:44 2024 الإثنين ,29 إبريل / نيسان

اقتحام مقر وكالة الأنباء الليبية في طرابلس

GMT 17:17 2022 الثلاثاء ,11 كانون الثاني / يناير

بسمة تضجّ أنوثة بفستان أسود طويل مكشوف عن الظهر

GMT 18:51 2023 الأحد ,09 إبريل / نيسان

ملابس ربيعية مناسبة للطقس المتقلب

GMT 13:01 2023 الإثنين ,03 إبريل / نيسان

موديلات ساعات فاخّرة لهذا العام
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon