في معنى اللغة عن حياتها

في معنى اللغة.. عن حياتها

في معنى اللغة.. عن حياتها

 لبنان اليوم -

في معنى اللغة عن حياتها

بقلم - الطيب طهوري كاتب وقاص

ليست اللغة كلمات مجردة محايدة ..اللغة، في تصوري، كائنات حية مشحونة بالعواطف والدلالات، مليئة بالمعاني والتصورات للحياة والمواقف من قضاياها ..اللغة بهذا المعنى تعكس، بشكل أو بآخر، واقع وحياة مستعمليها..

أتحدث عن اللغة ليس باعتبارها ألفاظًا معزولة عن بعضها، ذاك لا يهمني أبدًا، ذاك لاعلاقة له باللغة التي أعني..لا تكون تلك الألفاظ لغة إلا في إطار تفاعلها مع بعضها البعض..إلا في اللحظة التي تقترب من بعضها لتشكل جملها/ أسرها، وفقراتها/قراها أو أحياءها، وصفحاتها/قبائلها أو مدنها، وكتبها/ أوطانها..

قد تكون اللغة بما تحتوي عليه من مشاعر وبما تحمله من أفكار، وبما تعبر عنه من مواقف، وبما تعكسه من تصورات للمجتمع والحياة لغة حياة، تزرع الوعي في العقول، والأمل في النفوس، والشعور بالمسؤولية ويقظة الضمائر في السلوك ..وقد تكون نقيض كل ذلك..تكون لغة موت، لغة خضوع وشعور بالعجز وامتلاء باليأس، لغة فوضى، لغة لا مبالاة ونوم عميق للضمائر..

اللغة تعكس ما يحدث في مجتمعها..تعكس حرية مجتمعها وتنظيمه وقدرته على الفعل المثمر المضيف للحياة..تعكس امتلاك أفراده لإرادتهم..إلخ..أو تعكس عبوديته وخضوع أفراده للكسل واللامبالاة، وفوضاهم وعجزهم عن القيام بالفعل الذي يضيف إلى حياتهم ما هو إيجابي..

في المجتمعات الخاملة فاقدة حس الارتباط بالحياة بما هي جمال وفاعلية وتعلق بالمستقبل وعمل على بنائه بشكل أرقى وأنقى وأمتع، تصير اللغة ضعيفة بدورها، لا تتماشى مع مستجدات الحياة في العالم، لا تمتلك القدرة على التعبير عن تلك المستجدات.. تصاب بالعقم..لا تلد الألفاظ التي تعبر عنها..تصير في هكذا وضع لغة فوضى، لا صفاء فيها..لفظ من هنا ولفظ من هناك تصير..لا تكاد تفهم تصير..يمسي أصحابها شبه بكم ، شبه عمي، لا يتكلمون ولا يرون..يمسون عاجزين عن التعبير عن ذواتهم وإبراز آرائهم..لا يعرفون كيف يناقشون غيرهم من أهاليهم، فما بالك بمناقشة المختلفين..انفعاليين أكثر يمسون..يقتربون من حياة قطعان الأنعام أكثر..يمسون أكثر قابلية للخضوع والعبودية..لغة هذه المجتمعات تمسي لغة لا إبداع فيها، لا تطور..وبوضعها ذاك تتحول إلى لغة تعصب وإقصاء ..لغة مليئة بكل ما هو فكر لا يقبل الآخر المختلف، ولا يستسيغ العيش معه..لغة أحادية الرؤية..لغة فارغة فضفاضة..تتقلص أكثر حتى لو كان عدد ألفاظها ملايين الملايين..تضيق الرؤيا فيها باستمرار..

في المجتمعات الحية القوية الفاعلة التي تتعلق بالمستقبل وتعمل على بنائه بشكل أرقى تصير اللغة قوية تعبر عن كل شيء،وتوجد لكل مستجد في الحياة اسما.. لكل شيء فيها لفظا يناسبه ويعبر عنه بدقة..اللغة في وضع كهذا يعبر بها أصحابها سعداء، يثْرونها بشكل مستمر، ويعملون على نشرها في كل مكان ليزداد عدد الناطقين بها..هذه اللغة تلد الجديد لفظًا ومعنى دائمًا..تعانق الحياة..

في عالمنا العربي لغة مشتركة واحدة..لكنها ليست اللغة التي تجمعنا في الحياة..ليست اللغة التي تجمعنا في التعلق بالحياة والعمل على بناء مستقبلنا فيها بما يجعلنا فاعلين فيها، مساهمين مع الفاعلين الآخرين في بنائها وتطورها..إنها اللغة التي تفرقنا..تفرقنا بما تحمله من مشاعر وتصورات ومواقف..من يأس وعجز..عمليا ، لغتنا هذه لغات، ليس بالمعنى المثري لحياتنا، بل بالمعنى المضيِّق لها أكثر..لغة المتدين غير لغة غير المتدين..لغة الأصولي ( وهو السائد اجتماعيا) غير لغة الحداثي..لغة المتنفذ غير لغة المواطن البسيط..يهيمن على لغات الأولين مما ذكرت التضييق على الآخرين وعلى الحياة..إنها لغة عداء بدل ان تكون لغة صداقة..لغة كره بدل أن تكون لغة المحبة ..لغة نفي للآخر المختلف لا ضما حميميا له..لغة لا ثقة لا لغة ثقة..لغة تفريق لا لغة تجميع..لغة هدم لا لغة بناء..

في الجزائر، مثلًا، يحتقر المسؤولون ( غالبًا) في شتى القطاعات وفي مختلف المستويات شعبهم فيخاطبونه بغير لغته ( فصيحة كانت أو دارجة)..يخاطبونه متعالين عليه بلغة مستعمره السابق ( الفرنسية)..في استعمالهم تلك اللغة يقولون ( بكيفية غير مباشرة): إن الفرنسية هي لغة الحياة ..لغة التقدم..لغة الحاضر والمستقبل..يوحون لشعبهم بأن العربية لغة موت..لغة تخلف..لغة ماض لا حاضر لها ولا مستقبل..يتناسى أولئك المسؤولون أن معظم القطاعات في بلادنا مفرنسة: قطاع الصحة – قطاع الصناعة – قطاع المالية – ..إلخ..إلخ..يتناسون ان كل تلك القطاعات مفلسة يعمها الفساد وتتعشش فيها اللامبالاة..في المقابل، قطاعنا الديني معرب..القضائي معرب..التربوي معرب..الديني لا يتكلم إلا لغة تغييب العقل ..القضائي تنخره الرشوة والواسطة والمحسوبية ويحاصره الخضوع للمتنفذين سياسيا وماليا..التربوي متخلف جدا جدا، بدل أن يبني الفرد الحر الواعي المسؤول، نجده يرسخ مجتمع الرعية/ القطيع..

لا قطاع من كل تلك القطاعات التي ذكرت، معربًا كان أو مفرنسًا، يبدع شيئًا ما..لا قطاع مما ذكرت يساهم في تحسيس المواطنين بأنهم مواطنون حقيقيون، لهم حقوق يجب ان ينتظموا ليطالبوا بها، وعليهم واجبات يجب أن يؤدوها..لا يساهم أي قطاع من تلك القطاعات في بناء الإنسان الواعي المسؤول المحب للحياة ولأناس الحياة..إنسان البناء لا إنسان الهدم..

تكلم الفرنسية كما شئت، لا تعنيني فرنسيتك تلك ما دمت لا تستعملها إلا لاحتقار شعبك والتعالي عليه، بدل أن تستعملها لتحسين أدائك في ميدان مسؤوليتك وعملك بما يفيد مجتمعك..لتذهب فرنسيتك تلك إلى الجحيم..

تكلم العربية كما شئت أيضًا..لا تعنيني عربيتك تلك ما دمت لا تبدع فيها وبها..ما دمت لا تحسِّن بها أداءك في الميدان الذي أنت فيه بما يفيد مجتمعك..

لغتك أيها المفرنس الذي أعني ليست لغتي ولن تكون..

لغتك أيها المعرب الذي أقصد لن تكون لغتي ولن تكون..

لغتي التي أحب وأريد هي لغة الوعي لا لغة التجهيل..لغة الاقتراب من الناس لا لغة التعالي عليهم..لغة الإبداع لا لغة الجمود..لغة بناء الفرد بما يجعله مواطنا واعيا مسؤولا فاعلا مؤثرا،يمتلك إرادته وقدرته على التنظيم والنضال، لا لغة ترسيخ مجتمع القطيع اللامبالي الذي ينتظر الآخرين ليقرروا بدلا عنه ، بدل ان ينظم نفسه ويقرر بإرادته الحرة الواعية المسؤولة..لغة مواطنين فاعلين لا لغة رعايا خاضعين..لغة حياة لا لغة موت ..

أعطوني لغة حية أعطكم شعبًا حيًا يبني حاضره ومستقبله..غير هذه اللغة لا يكون إلا هيمنة لغة الإيديولوجيا التي يحرص أصحابها، وهم كثر في مجتمع الجهل والتخلف، على التعبير عما هو هامشي من قضايا مجتمعهم وحياته، عما هو معمق للصراع فيه بين أفراده وجماعاته من أجلها وبسببها، ويغطون بذلك الصراع على قضاياه الأساسية، قضايا المواطنة والبناء ومحاربة الجهل والتخلف واللامبالاة والفساد.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في معنى اللغة عن حياتها في معنى اللغة عن حياتها



GMT 11:21 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

ضفضة_مؤقتة

GMT 09:16 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

"المثقف والسلطة" أو "مثقف السلطة" !!

GMT 15:25 2022 الإثنين ,14 آذار/ مارس

أنور الخطيب لمحمود درويش: إذن..لماذا خرجت

GMT 17:28 2021 الأربعاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

ومضات شعرية

GMT 17:02 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

التنوع الثقافي لا يُفسد للود قضية

GMT 16:58 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

" واقتلع الشوق ماتبقى مني "

GMT 18:14 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

يوسف السباعي فارس قتلته السياسة وأحياه الحبــ

نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 14:05 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 08:54 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

جينيسيس تكشف عن G70" Shooting Brake" رسمياً

GMT 00:08 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

وزارة الصحة التونسية توقف نشاط الرابطة الأولى

GMT 21:09 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 23:44 2020 الإثنين ,28 كانون الأول / ديسمبر

مارادونا وكوبي براينت أبرز نجوم الرياضة المفارقين في 2020

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 11:03 2022 الأحد ,01 أيار / مايو

إتيكيت طلب يد العروس

GMT 10:04 2021 الإثنين ,10 أيار / مايو

الهلال السعودي يحتفل بمئوية جوميز

GMT 18:43 2022 الإثنين ,09 أيار / مايو

أفضل النظارات الشمسية المناسبة لشكل وجهك

GMT 17:41 2020 الجمعة ,11 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي على أنواع الشنط وأسمائها

GMT 22:26 2020 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

مصارع يضرم النار بمنافسه على الحلبة

GMT 12:31 2022 الأحد ,10 تموز / يوليو

أفضل أنواع الماسكارا المقاومة للماء
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon