الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات
آخر تحديث GMT05:38:12
 لبنان اليوم -

العالم يتخلّى عن روحه في لحظات باريسيّة

الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات

 لبنان اليوم -

 لبنان اليوم - الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات

الكاتب والأديب اللبناني عيسى مخلوف
بقلم : عيسى مخلوف

رسالة إلى عبّاس بيضون

دعني أتذكّر، الآن، لحظتين اثنتين من لحظاتنا الباريسيّة: اللحظة الأولى حديثة العهد. كانت آخر مرّة جئتَ فيها إلى هنا وذهبنا لحضور المعرض المخصّص لأوسكار وايلد في متحف "القصر الصغير" حيث طالعتنا المخطوطات والكتب والصُّوَر الفوتوغرافية والأعمال الفنّية ومن بينها لوحة زيتيّة كبيرة تظهر فيها الممثلة الإنكليزية ليلّي لانغتري، وقد أنجزها، في العام ١٨٧٨، الفنان إدوارد بوينتر. عُرضَت، الى يمين اللوحة، كلمات أوسكار وايلد المهداة إليها.

لستُ أدري فيما كنتَ تفكّر وأنتَ تراقب اللوحة. أمّا أنا فتخيّلتُ نظرات تلك المرأة حين كانت تتكلّم أو تحزن أو تبتسم، وحين تلتفت إلى المرآة لترى الأيّام كيف تمرّ مسرعةً بين تقاسيم وجهها، وخصوصًا بين العينَين الملتمعتَين المندهشتَين.

عندما هممتُ بالانتقال إلى لوحة أخرى، بقيتَ أنتَ مسمَّرًا في مكانك، لا تشيح نظرك عن "مسز" لانغتري ولا تشبع من رؤيتها. فاقتربتُ منكَ ووجدتكَ تتمتم هامسًا: "ما أجملها". وتساءلتُ أمامكَ، يومها، السؤال الذي لا جدوى منه: كيف لهذا الجمال أن يكون تحت التراب؟ عندئذ، سمعتك تقول، من دون أن تنظر إليّ، بل وأنتَ تحدّق في الأرض كأنّك تبحث عن شيء أضَعتَه: "هذا ما أفكّر فيه كلّ يوم".

ماذا كنتَ تقصد بالتحديد؟ وهل من حاجة إلى السؤال عن موضوع تعجز اللغات عن صَوغه. سمِّه، إذا شئت، جرح الولادة السّرّيّ، الجرح الذي لا يندمل، أو اختَر له أيّ مجاز آخر. إنّه سرّنا جميعًا. ومع ذلك، يحاول كلّ منّا أن يخفيه عن الأعين، كما لو أنّه سرّه وحده. إنّه الموت، الشيء الأكيد الوحيد، لدرجة أظنّ معها أنّ الحياةَ نفسها أحد فروعه، وأحد أشكاله وتنويعاته. نحن هنا، الآن، كمجموعة من الغيوم. فجأةً نوجد، وفجأةً نختفي، كأنّنا لم نكن، فيبدو وجودنا كلّه ضَربًا من السِّحر.

خرجنا من المتحف في اتّجاه المقهى المجاور، حيث نلتقي في العادة، وأكملنا حديثنا. أخبرتني عن صمت بسّام حجّار وعن حالة الأرق التي لازمته في الأشهر الأخيرة قبل وفاته. وأخبرتكَ عن لقائي الأخير به في مدينة "لوديف".

كلّما نلتقي، يكون بسّام حاضرًا بيننا.

اللحظة الثانية التي أتذكّرها كانت منذ سنوات في أمسية شعريّة جمعَتنا في "المركز الثقافي المصري" مع أحمد عبد المعطي حجازي وحسن طلب. ذلك اليوم، نظرتَ إلى الجموع نظرتك المعهودة حين تبدأ بالكلام كأنك تقرأه على لوح أسود. تتكلّم وتستطرد. تتدافع الكلمات أمامك كأمواج متلاحقة، تذوب الواحدة منها في الأخرى. كان نظركَ يذهب أحيانًا أبعد من الحاضرين، نحو حديقة "اللوكسمبور" الماثلة وراء مربّعات الزجاج. وكنتَ كأنكَ تروي للشجر والبشر على السواء ما حلَّ بالشعر. الشعر الذي يخرج الآن من مخبئه، لا يعرف أحدًا ولا أحد يعرفه. وسرعان ما يرتفع صوتك، وأنتَ ترثي هذا الكائن الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين سائر الكائنات. كنتَ ترثيه بلا حسرة ولا نحيب، وترى العالم حوله كيف يتحلّل ويتخلّى عن روحه.

كنتَ تودّع الشعر الذي يناديه سوفوكليس من وراء الأزمنة البعيدة قائلًا: "تكلَّم يا طفل الأمل المُذَهَّب، يا الصَّوت الأبديّ".

وكنتُ أخالك، يا صديقي، تَنعى العالم فيما تَنعى الشعر. العالم الذي يمسكه بقرنَيه أباطرة السلطة والعنف والمال. العالم المُسرع إلى حتفه كأنّه ذاهب لمُلاقاة قدره المحتوم.

قد يهمك أيضاَ 

أحمد العامري يوضح أن الشارقة مرجعها الكتاب في مجمل علاقاتها مع بلدان العالم​

محمد الهادي المزوزي يُسلط الضوء على تعنيف المرأة المغربية في عمل فني جديد

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات الأكثر قوّة والأكثر هشاشة بين الكائنات



نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 06:51 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس
 لبنان اليوم - أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس

GMT 06:34 2024 الأحد ,21 إبريل / نيسان

نصائح لتنسيق ألوان الملابس بشكل جيد
 لبنان اليوم - نصائح لتنسيق ألوان الملابس بشكل جيد
 لبنان اليوم - موناكو وجهة سياحية مُميّزة لعشاق الطبيعة والتاريخ

GMT 08:59 2024 الأحد ,21 إبريل / نيسان

نصائح لتنظيف الستائر دون استخدام ماء كثير
 لبنان اليوم - نصائح لتنظيف الستائر دون استخدام ماء كثير

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:43 2022 الإثنين ,09 أيار / مايو

أفضل النظارات الشمسية المناسبة لشكل وجهك

GMT 16:11 2023 الإثنين ,10 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الاثنين 10 أبريل / نيسان 2023

GMT 17:41 2020 الجمعة ,11 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي على أنواع الشنط وأسمائها

GMT 00:08 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

وزارة الصحة التونسية توقف نشاط الرابطة الأولى

GMT 09:34 2024 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

بريطانيا تُحقق في اغتصاب جماعي لفتاة بعالم ميتافيرس

GMT 12:31 2022 الأحد ,10 تموز / يوليو

أفضل أنواع الماسكارا المقاومة للماء

GMT 08:54 2022 الخميس ,02 حزيران / يونيو

جينيسيس تكشف عن G70" Shooting Brake" رسمياً

GMT 20:21 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

توقعات الأبراج اليوم الأربعاء 3 مايو/ أيار 2023
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon