العالم يرقص على رؤوس الثعابين

العالم يرقص على رؤوس الثعابين

العالم يرقص على رؤوس الثعابين

 لبنان اليوم -

العالم يرقص على رؤوس الثعابين

بقلم :غسان شربل

خدَعَنا العالم. توهمنا أنه تعلم. من حربين عالميتين. ومن انهيارات أصغر لا تقل وحشية. ومن المقابر الجماعية. والشعوب الهائمة المقتلعة من جذورها. ومن حطام الدول والجيوش والمدن. من النعوش العائدة ولوعة الأرامل والثكالى. ومن عيون الأيتام. ومن الميزانيات الهائلة المبددة على أحلام المتهورين.

خَدَعنا القرن الحالي. أطل واعداً. ثورات تكنولوجية متلاحقة. وثورة اتصالات لا تنام. ومؤتمرات ضخمة تدعو إلى التنبه للاحترار المناخي واغتيال البيئة التي نعيش فيها ومنها. وأمم متحدة تحاول أن تنسينا عثراتها السابقة. وصدقنا أن عهد الجرائم الشاسعة قد انقضى. وأن التستر صار مستحيلاً. وأن الهاتف الذكي شاهد لا يغمض له جفن. يتجسس ويصور ويبث ويفضح الارتكابات بعد لحظات من وقوعها. وصدقنا أن زمان الشفافية قد أطل. وأن مبدأ المحاسبة من البديهيات. وأن المؤسسات ستحول دون جموح الأقوياء وستمنعهم من إطلاق المآسي الكبرى. وساد انطباع أن رقابة المؤسسات والرأي العام ستقلم أظافر إمبراطوريات الفساد. وأن عهد الحكومات الفاشلة يتعرض لضربات موجعة.
وصدقنا أننا في الطريق إلى عالم أقل وحشية. وأن العيش في «القرية الكونية» سيكون أقل إيلاماً مع تدفق السلع والأفكار والاستثمارات. وخالجنا اعتقاد أن جنرالات التكنولوجيا سيحلون مكان جنرالات الجيوش. وأن الشركات العملاقة ستتقدم على الترسانات.
واعتقدنا أن الكتب التي تتحدث عن هتلر وموسوليني وستالين وبول بوت وأشباههم صارت زائدة على رفوف المكتبات في منازلنا. وشعرنا بضرورة إعطاء الأماكن للكتب التي تتحدث عن المبدعين الذين شرعوا باختراعاتهم واكتشافاتهم في تغيير مصير سكان الكوكب. وأنه لم يعد ثمة مبرر لإعطاء أمكنة لمن اغتالوا الخرائط وأدموا المدن وأغرقوا الجهات بالمقابر والدموع. واعتبرنا أن علينا إعطاء مساحة أوسع لسياسيين ينهمكون بتحسين قطاعات الصحة والتعليم ومحاربة البطالة والتصحر والجفاف وخفض الانبعاثات الضارة. وخيّل إلينا أن العالم سينتقل من زمن الحكام الذين يخدرون شعوبهم بأوهام الانتصارات إلى عهد الحكام الذين يشركون مواطنيهم في ورشة الإنجازات وتحسين حياة الناس.
ها نحن نودع أوهامنا. في 24 فبراير (شباط) الماضي أطلق فلاديمير بوتين قذيفة «ذكية» قتلت العالم الذي كنا نعيش في ظله منذ انهيار جدار برلين وتواري الاتحاد السوفياتي. شطب الجيش الروسي الحدود الدولية وتوغل في الخريطة الأوكرانية. المشهد مروّع بكل المقاييس. الدولة التي أطلقت الغزو هي دولة كبرى تغطيها مظلة نووية وتتمتع بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي. سرعان ما بدا المجلس عاطلاً عن العمل. مواقف الأمين العام للمنظمة الدولية بدت أقرب إلى استغاثات عالم يغرق، منها إلى الاستعداد لفرض حضور ولو خجول للقانون الدولي. وتذكر العالم أن أوكرانيا عارية ولا تتمتع بمظلة حلف «الناتو». كانت الرسالة فظيعة. لن يهب أحد لحمايتك إذا هاجمك قوي ولم تكن جزءاً من حلف عسكري. الدرس قاسٍ. ولن يغامر أحد بإرسال جيشه لإنقاذك من أنياب دولة نووية. بدت أوروبا ضعيفة وخائفة من رائحة الدخان ومشاهد المدن المدمرة. أقصى ما تستطيع أن تفعله هو أن تزود الأوكرانيين بالأسلحة في حرب تبدو نتائجها معروفة سلفاً.
أخطر ما في الحرب التي أطلقها بوتين هو أنها ليست وليدة خلاف روسي - أوكراني. إنها جزء من معركة أوسع. أوكرانيا مجرد مسرح اعتبره بوتين مناسباً لإطلاق انتفاضة عسكرية وسياسية هائلة على موازين القوى التي سادت في العالم على مدى 3 عقود. لهذا حرص على الإعلان بلهجة المنتصر أن «زمن الهيمنة انتهى». وهكذا يمكن القول إننا أمام حرب كبرى. حرب روسية تستهدف القيادة الأميركية للعالم ومعها النموذج الغربي الذي انتصر من دون حرب قبل 3 عقود ونجح في تدمير الاتحاد السوفياتي. ووحدها القارة الأوروبية تصلح لإطلاق الانقلابات الكبرى بحكم موقعها وتاريخها وتأثيرها. تحدث بوتين عن عالم جديد سترسي قواعده الدول «القوية» التي تتمتع بسيادة غير منقوصة.
لا مبالغة في القول إن العالم غارق في مأزق يصعب الخروج منه. إرغام روسيا على الخروج من أوكرانيا تحت الضغوط العسكرية لا يبدو ممكناً. مثل هذا الخيار يعني التورط في حرب طويلة باهظة التكاليف عسكرياً واقتصادياً وسياسياً لا تبدو «الجبهة الغربية» قادرة على احتمالها. اختلاط حرب الصواريخ بحرب النفط والغاز والقمح يشعر دولاً كثيرة بأنها مهددة بالاختناق. ارتفاع الأسعار وحديث التضخم والكساد والخوف من الآتي ينذر بإطلاق موجة من عدم الاستقرار في العالم. وإذا كان إرغام روسيا على الانسحاب مستبعداً فإن تقديم أوكرانيا هدية لاسترضائها صعب هو الآخر، لأن ما يريده الكرملين أكبر بكثير من أوكرانيا.
واضح أن الحلقة الأوكرانية هي الشرارة التي فتحت أبواب الجحيم. لا مبالغة في هذا القول. تكفي الإشارة إلى عودة العالم إلى الرهان على الترسانات والجيوش، لا على الأمم المتحدة والقانون الدولي. يكفي شعور الدول الصغيرة أنها تحتاج إلى جيشها وتحالفاتها كي تقنع جارها القوي بعدم الانقضاض عليها تحت أعذار كثيرة. يكفي الخوف على سلع كان العالم يعتقد أن المتحاربين لن يفكروا بإشراكها في حروبهم.
في العقود الثلاثة الماضية افتقدت الإدارة الأميركية للعالم إلى التواضع والواقعية. ارتكبت كثيراً من الأخطاء في التعامل مع روسيا وغيرها. تصرفت بغرور المنتصر الذي يفرض أسلوبه ويملي قواعده. لكن الأخطاء الأميركية لا تبرر أبداً الانقلاب الباهظ الذي أطلقه بوتين بالحديد والنار والغاز والقمح.
إنها حفنة شهور غيّرت العالم. نكاد نعتاد على رؤية ملايين الأوكرانيين الهائمين. وعلى رؤية الشوارع المتفحمة في مدن أوكرانية. ونكاد نسلم أن تايوان هي المحطة المقبلة لاستكمال الانقلاب. وها نحن نرى الصين تطل عبر حاملة طائرات ثالثة بعدما كانت تطل بأحلام «مبادرة الحزام والطريق». وها هي الحكومات القريبة والبعيدة تشد الأحزمة. وها نحن نرى مليارات الدولارات تُنفق على الترسانات، وهي التي كان يمكن أن تنفق على الصحة والتعليم ومساعدة اللاجئين. إنها مشاهد عالم يغرق. إذا كان يمكن تفكيك الخريطة الأوكرانية، فلماذا لا يمكن تفكيك خرائط أخرى؟ وماذا لو أفلتت ذئاب الأقاليم لتعيد رسم ملامح جيرانها؟
واضح أن العالم موعود بسنوات صعبة. ولن يكون غريباً أن يستعير غوتيريش من الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح عبارته الشهيرة ليقول إن إدارة العالم تشبه الرقص على رؤوس الثعابين. والثعابين تلدغ الراقص مهما كان بارعاً في ملاعبتها واسترضائها وترويضها.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العالم يرقص على رؤوس الثعابين العالم يرقص على رؤوس الثعابين



GMT 19:34 2025 الأربعاء ,12 آذار/ مارس

مسلسلات رمضان!

GMT 11:05 2025 الإثنين ,10 آذار/ مارس

ريفييرا غزة!

GMT 19:57 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 19:29 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

الكتب الأكثر مبيعًا

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon