على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا

على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا

على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا

 لبنان اليوم -

على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

غالباً ما استُخدمت، في تناول الوضع السوريّ، نظريّة مؤدّاها أنّ الثورة الحقيقيّة هي التي تغيّر مجتمعاً، لا التي تغيّر نظاماً. والنظريّة هذه تبقى أقرب إلى شعار، بمعنى أنّ الشعار يقول كلّ شيء ولا يقول شيئاً. فمن البديهيّ أن تقاس الثورات بمدى تغييرها العلاقات الاجتماعيّة والأفكار والثقافة والتعليم ومسائل الجنس والجندر، ومن ثمّ النظرة إلى الذات وإلى العالم. لكنْ هل يكون هذا ممكناً دون تغيير النظام السياسيّ كشرط ضروريّ غير كافٍ، خصوصاً أنّنا لا نتحدّث عن دول تحترم استقلال المجتمع المدنيّ وخصوصيّته وتمتنع عن التدخّل في عديد العمليّات الاجتماعيّة والثقافيّة. وما دام الكلام عن سوريّا تحديداً فإن ذاك الجهاز الأسديّ المسمّى دولةً كان دوماً مشهوراً، وأكثر من أيّ شيء آخر، باثنين: بتدخّله في الشاردة والواردة من حياة مواطنيه اجتماعاً وتعليماً، بل تواصلاً بأبسط معاني كلمة التواصل، كما بالعقاب الوحشيّ الذي يُنزله بالمواطنين الذين لا يمتثلون لمعاييره المفروضة. ولوحات الموت التي رأيناها في صيدنايا وسواها باتت أبلغ من كلّ كلام.

لهذا كان من المشروع تماماً أن تُقرأ نظريّة «تغيير المجتمع لا تغيير النظام» بوصفها محاولة للتهرّب من الإسهام في تغيير النظام، وبالتالي علامة على عدم اكتراث فعليّ بتغيير المجتمع.

في المقابل، فإنّ سوريّا ما بعد إطاحة بشّار باتت تطرح على السوريّين وعلى المعنيّين بشأنها مشكلة من نوع آخر: ماذا حين يطاح النظام ولا يبدأ تغيير المجتمع، أو يجد المجتمع نفسه، وفق ما يرى سوريّون كثيرون، مهدّداً باحتمال التغيّر إلى الأسوأ؟

هنا قد تواجهنا نظريّة نقيض للنظريّة الأولى، مفادها اعتبار أنّ تغيير النظام كافٍ بذاته، وأنّه يغني عن تغيير المجتمع، أو بلغة أدقّ، عن إتاحة الحرّيّة للسكّان كي يغيّروه بأنفسهم وعلى هدي تجربتهم وطموحاتهم.

والحال أنّ النظريّتين يجمع بينهما اتّفاقهما، ولو من موقع الضدّ، على تجزئة معنى الثورة، ومن ثمّ الاستعاضة عن الكلّ بالجزء. لكنّهما تشتركان أيضاً في أنّ كلّاً منهما تخدم وضعاً سلطويّاً قائماً، ضدّاً على رغبة الراغبين في إزالته. وهذا فضلاً عن صدورهما عن مقدّمات أهليّة نزاعيّة ليس صعباً تقصّي أسبابها. فالنظريّة الأولى كانت تقليديّاً ترى في العلمانيّة ما يغيّر المجتمع، فتحمّست لها ولافتراض أنّها، من خلال تحييدها الدين، تمحو الفارق بين أكثريّة وأقلّيّات. وبدورها فالنظريّة الثانية ذهبت تقليديّاً، وتذهب، إلى أنّ الخلاص تضمنه صيغة حكم شعبويّة، شبه ديمقراطيّة أو غير ديمقراطيّة، إلاّ أنّ العدد الأكثريّ هو ما يتحكّم بمسارها، محدّداً طبيعة «الضمانات» و»التطمينات» التي تُقدّم للأقلّيّات.

وما يمكن قوله اليوم إنّ إسقاط النظام بات يفتح الباب للمهمّة المديدة، الصعبة والمعقّدة، التي هي «تغيير المجتمع». وهنا يحتلّ الصراع الثقافيّ موقعاً متصدّراً بحيث تُستعرض وتشتبك الآراء المتباينة حول السوريّا التي يريدها السوريّون. فما كان يبدو سابقاً «ثقافويّة»ً تضع الثقافة حيث ينبغي أن تكون السياسة، وتدعو إلى تغيير المجتمع تهرّباً من تغيير النظام، لم يعد كذلك. وأغلب الظنّ أنّ مسائل كالحرّيّات الشخصيّة والعامّة، وعلاقة الدين بالسياسة، وأوضاع المرأة، وكتابة التاريخ ومناهج التعليم، ستطرح نفسها بحدّة، ومعها خصوصيّات الجماعات السوريّة طوائفَ ومناطق وإثنيّات. يعزّز هذا الميل أنّ قوى «القوميّة» و»المقاومة» على أنواعها تعرّضت، في سوريّا كما في عموم المشرق، لضربات مميتة، ما يزيح «قضايا المصير» التي لا تُحلّ عن كاهل المسائل المجتمعيّة والثقافيّة التي تُحلّ.

وبالطبع فأولئك الذين سيخوضون هذه المعركة اليوم لا يمتّون بصلة إلى أصوات من دعوا بالأمس إلى تغيير المجتمع دون تغيير النظام. فهؤلاء أبناء ثورة 2011 وبناتها ممّن دفعوا غالياً ثمن محاولتهم تغيير النظام ليجدوا أنفسهم الآن مواجَهين بمهمّة تغيير المجتمع.

وقبل أن يكون مدار المسألة الملحّة راهناً مدّة الثلاث سنوات والأربع سنوات لإعداد الدستور وإجراء الانتخابات، فإنّ مدارها هو المناخ الذي سيسود هذه السنوات الثلاث أو الأربع. فهل سيُتاح المجال لجوّ حرّ وسلميّ للانطلاق في مسيرة هذا التغيير، أي للتنظيم وبناء الروابط والأحزاب وعرض الأفكار، أم أنّ القمع هو ما سيواجه السوريّين الطامحين إلى تغيير يتعدّى تغيير النظام؟

واقع الحال أنّ المعركة الجديدة، في ظلّ أزمة اقتصاديّة طاحنة وبعثرة سكّانيّة وتفاوت بين الأوضاع السياسيّة للمناطق، فضلاً عن البناء على العدم السياسيّ الذي خلّفه النظام الساقط، لن تكون بالأمر السهل. فوق هذا، لم تترك حدّة القمع على مدى عقود للنضالات المجتمعيّة والثقافيّة ما كان يمكنه أن يكون تأسيساً صلباً أو تراكماً أوّليّاً يُعتدّ به. مع هذا فإنّ أيّ منع أو إعاقة يفرضهما النظام الجديد سيكونان تمهيداً لتنازع يُرجى لسوريّا الجديدة أن تنجح في اجتنابه. فإمّا أن يتيح الوضع الناشىء خوض صراع حول المجتمعيّ والثقافيّ، يحلّ العمل السلميّ فيه محلّ العسكريّ، أو أن يغدو الخراب أفقاً شديد الاحتمال.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon