في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها

في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها...

في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها...

 لبنان اليوم -

في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها

بقلم : حازم صاغية

إنّها الطائفيّة. إنّها الإثنيّة أو الجهويّة. إنّها، بكلمة أشمل، العصبيّة، أو نظام القرابة الموسّع.
هكذا نقول كما لو أنّنا نعثر على اكتشاف، وقد نضرب كفّاً بكفّ تأسّفاً فيما نحن نقول ذلك. نكتشف الحقيقة هذه كلّما اندلعت حرب أهليّة في بلد ما، وكلّما فشلت ثورة، وكلّما استحالت تسوية سياسيّة بين طرفين، وكلّما انهار حزب حديث أو انكمش وتقلّص، وكلّما أطلّت من وراء واجهة سياسيّة عصريّة المظهر ولاءات ضاربة في القِدَم... نكتشفها اكتشافاً لأنّنا أمضينا عقوداً ننفي وجود تلك العصبيّات، أو نخفّف من أثرها، أو نردّها إلى هذا العامل أو سواه. فالذي فرّق بيننا، بحسب التيّار الأعرض في ثقافتنا، ليس سوى المستعمِر الذي اتّبع سياسة «فرّق تسد»، أو قلّة الوعي والتعليم والتمدّن، أو المصالح الطبقيّة التي تكره توحّد الكادحين. مع هذا فنحن، في آخر المطاف، أخوة، والأخوة لا بدّ أن يلبّوا نداء الأخوّة، إن لم يكن اليوم ففي غد قريب آتٍ لا محالة. إذاً لا داعي لبذل أيّ جهد في مكافحة هذا العارض الذي سيموت من تلقاء نفسه. أمّا الجهود، كلّ الجهود، فلتّتجه إلى مكافحة الإمبرياليّة والصهيونيّة والشياطين الكبرى والصغرى على أنواعها.
هذا ما قالته الحكمة السائدة بلسانيها الثوريّ والمحافظ، وهي ظلّت تقوله وتكرّره لعشرات السنين، ولا زالت تفعل.
الولايات المتّحدة، في المقابل، كان لها إسهامها التبسيطيّ الآخر: الديمقراطيّة والانتخابات. منذ جريمة 11 أيلول 2001، وخصوصاً منذ حرب العراق في 2003، تُعزف هذه المعزوفة: نقص الديمقراطيّة سبب الإرهاب، فضلاً عن كونه سبب التخلّف. تجربة العلاج بالديمقراطيّة نجحت في اليابان وألمانيا الغربيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، وفي أوروبا الوسطى بعد الحرب الباردة، فلماذا لا تنجح في المنطقة العربيّة؟ الهوامش على ذاك المتن كثيرة تجوّدها خصوصاً المنظّمات الدوليّة: تمكين المجتمع المدنيّ، تمكين المرأة، تمكين الشبيبة...
لا شكّ أنّ الديمقراطيّة وانتخاباتها، وأعمال التمكين التي ترافقها، هي مثلها مثل الاستقلال الوطنيّ وتحسين التعليم وتضييق الفوارق الطبقيّة...، كلّها مكاسب للبلدان التي تتمتّع بها. لكنّ التجارب التي لا تُحصى في منطقتنا تعلّم أنّ قدرة العصبيّات على الحدّ من فعاليّة تلك المبادىء، أو على تشويهها في الممارسة، أكبر كثيراً من قدرة المبادىء المذكورة على إخضاع العصبيّات أو تطويعها. لا يعود هذا، بطبيعة الحال، إلى أيّة ماهويّة يختصّ بها العالم العربيّ دون سواه، فالهويّات الصغرى تضرب اليوم بلداناً لا تُحصى على هذا الكوكب، ولا تنجو منها بلدان متقدّمة، صناعيّة وما بعد صناعيّة.
لكنّ العصبيّات عندنا تعمل وحدها تقريباً، فالساحة كلّها لها، ويكاد لا ينافسها منافس سياسيّ أو تقنيّ أو اقتصاديّ وتنمويّ. لا أفكار. لا سياسات. لا أحزاب. لا إدارات. لا صناعات أو سكك حديد... إنّها داؤنا الصعب الذي يسمّم كلّ قيمة في السياسة أو الوعي أو العلاقات الاجتماعيّة ممّا قد يغدو ذات يوم منافساً: الوطنيّة لا تجعلها العصبيّات صعبة التحقّق فقط، بل تقوّضها من خلال التحالف العابر للحدود مع أبناء العصبيّة في بلد آخر. الطبقيّة تحول العصبيّات دون تمكّنها من الوعي، وبالتالي دون تحوّلها إلى فاعل سياسيّ. التعليم يغدو مصنعاً لإنتاج كوادر أكثر حداثيّة وفعاليّة في خدمة العصبيّة التي يصدر عنها المتعلّمون... حتّى الانتخابات، كما علّمتنا مراراً تجارب العراق ولبنان، والآن ليبيا والجزائر، يعاد تدويرها بما يجعلها فرصةً لمزيد من استقطاب الجماعات ومن شحذ وعيها وهمّتها في المواجهة مع جماعات أخرى...
يضاف إلى هذا السجلّ، الذي ربّما جازت تسميته خديعة الإيديولوجيا الحديثة، أمران:
- الميراث الاستبداديّ في عدد بلدان المنطقة، حيث تتوسّع الفجوة بين الجماعات الأهلية، مما يمنعها من التعبير الذاتيّ، ولا يدفع بها إلاّ إلى مزيد من التجذّر والاحتقان.
- ومدى الخضوع للظروف والتدخّلات الخارجيّة بفعل خواء الداخل الوطنيّ وعجزه عن التشكّل بصفته هذه. أمّا أسوأ الاحتمالات وأشدّها تكراراً فحين تكون البلدان المؤثّرة من الخارج غير ديمقراطيّة، إن لم نقل معادية للديمقراطيّة.
في اختلاط هذه العناصر، وفي كثرتها وتداخلها، هناك، بطبيعة الحال، ما يصعب التأثير فيه. لكنْ على صعيد الثقافة السياسيّة يمكن، على الأقلّ، البدء بالاعتراف بهذا المعطى الخطير وبذل الجهد لمحاصرته والحدّ منه. تجارب الماضي، والكوارث التي نعيشها في الحاضر، والآفاق المسدودة للمستقبل، كلّها تحضّ على ذلك. المحرّمات ينبغي التعامل معها بوصفها المحرّم الوحيد.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها في هجاء العصبيّة التي نرزح تحت وطأتها



GMT 19:57 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 19:29 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

الكتب الأكثر مبيعًا

GMT 11:46 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

الرئيس السيسى والتعليم!

GMT 19:13 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

أصالة ودريد فى «جوى أورد»!

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon