بيولوجيا السياسة شي وبوتين

بيولوجيا السياسة... شي وبوتين

بيولوجيا السياسة... شي وبوتين

 لبنان اليوم -

بيولوجيا السياسة شي وبوتين

بقلم:مأمون فندي

في عام 1990، وفي أثناء تحضيري درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، جاءنا أستاذ زائر من جامعة هاواي - مونوا اسمه غليندون شوبرت (Glendon Schubert)، عرّفنا بنفسه في أول محاضرة عامة له بأنه أستاذ Bio-Politics، وهو فرع جديد في العلوم السياسية يبحث في علاقة البيولوجيا بالسياسة. لم أكن أعلم أن هناك فرعاً في العلوم السياسية بهذا الاسم، ولما سمعت محاضرة الأستاذ التي ركزت على تطور البشر وعن بنية العقل البشري وغيرهما قررت الانخراط في هذا الفرع المدهش لفصلين كاملين، لاستكشاف العلاقة بين إدارة الحياة البشرية والجسد السياسي، وكيفية التحكم في الزمن البيولوجي والسياسي، إن كان ذلك ممكناً. خلال دراستي معه اكتشفت أبعاداً أوسع للمجال السياسي وسلوك البشر لم أدرسها من قبل.

تذكرت هذا الفرع في تخصصي عندما قرأت عن التسريب الأخير حول الخلود الذي كشفته محادثة جانبية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ، حول إطالة العمر حتى 150 عاماً حسب رؤية بوتين، أو الخلود حسب رؤية شي. هذا الحوار، رغم بساطته، يفتح نافذة على فهم طبيعة السلطة المعاصرة، وكيف يسعى الزعماء إلى الخلود كل بحسب طبيعته واستراتيجيته: بوتين يرى الخلود بيولوجياً، وشي يراه رمزياً ومرتبطاً باستمرارية الدولة الصينية الحديثة.

بوتين يرمز إلى خلود الفرد البيولوجي. حديثه عن زراعة الأعضاء، والتكنولوجيا الحيوية، وإمكانية إطالة الحياة ليس هوساً شخصياً فحسب، بل امتداد لفكرة Bio-Politics كما شرحها شوبرت، أي السيطرة على الحياة نفسها كأداة للحكم. الجسد عند بوتين ليس مجرد وعاء للسلطة، بل مشروع سياسي يجب تأمينه، بحيث يواكب طول فترة النفوذ السياسي. في هذه الرؤية، يلتقي العلم بالسلطة، والبيولوجيا بالسياسة، في عملية إدارة الموت ذاته أو تأجيله، ليصبح امتداد الجسد امتداداً للسلطة نفسها.

في المقابل، يمثل شي جينبينغ الخلود الرمزي. اهتمامه بالعيش الطويل مرتبط باستمرارية الدولة ونفوذها، وليس بجسده الشخصي. الخلود هنا مؤسسي: قدرة الاسم والسلطة والبنية السياسية على الاستمرار عبر التاريخ وشرعية الإنجاز الصيني. الحديث عن بلوغ الإنسان 150 عاماً يمكن فهمه كرمز لرؤية شي: دولة مستمرة، قوة لا تموت، ونظام سياسي يتجاوز حدود الفرد. الخلود بالنسبة له ليس مسألة طبيعية، بل استراتيجية رمزية للحفاظ على الهيمنة والوجود السياسي للصين ككيان مستمر ومستقر.

المقارنة بين هذين النهجين تكشف أبعاد السلطة المعاصرة. بوتين يسعى لتأمين جسده كأداة للسلطة، بينما يسعى شي لضمان امتداد مؤسسته عبر الزمن. الأول يتعامل مع الموت كمشكلة شخصية مباشرة، والثاني كمؤثر رمزي يجب تجاوزه بالبناء المؤسسي. كلاهما يبحث عن الخلود، لكن على مستويات مختلفة: فردية وبيولوجية مقابل جماعية ورمزية.

التحليل البيوسياسي، بحسب منظور شوبرت، يطرح جدلاً أخلاقياً وعلمياً مهماً. البحث عن الخلود البيولوجي لدى الزعماء يثير تساؤلات حول توزيع الموارد، وتفاوت النفوذ، وسيطرة الدولة على الجسد البشري، خاصة في المجتمعات غير المتساوية، لكن فكرة الخلود ليست جديدة: الفراعنة سعوا لخلود الجسد عبر التحنيط، ولخلود الروح بالصلوات والتمائم، والفلاسفة الصينيون ربطوا الاستمرارية بالمبادئ السماوية. اليوم يسعى الزعماء المعاصرون لتحقيقه علمياً وسياسياً.

إن التلاقي بين الخلود البيولوجي والرمزي يوضح تحولاً في الفكر السياسي المعاصر: لم يعد الخلود حلماً دينياً أو فلسفياً فحسب، بل أصبح أداة استراتيجية للسلطة؛ فالخلود الفردي عند بوتين امتداد مباشر للسلطة الشخصية، بينما يمثل الخلود الرمزي عند شي استمرارية الدولة ككيان مستقل عن الأفراد. وفي الحالتين، يظل الموت خارج السيطرة، والتاريخ قوة تحدد مصير كل زعيم، مهما طال عمره أو امتدت سلطته.

حديث الخلود بين شي وبوتين يعكس مرآة جديدة لفهم السياسة المعاصرة: كيف يتحرك الزعماء بين الجسد والمؤسسة، وبين الفرد والدولة، وبين العلم والرمزية. بوتين وشي يظهران جانبين من البحث نفسه: الأول يسعى لتأمين الجسد، والثاني لتأمين الاسم والكيان، وكلاهما يبحث عن الخلود في زمن سريع، حيث تتغير السلطة والرموز والتاريخ بلا توقف.

يمكن قراءة هذه الديناميكيات أيضاً في سياق استراتيجيات الردع بين القوى العظمى، سواء التنافس الصيني - الأميركي أو الروسي - الأميركي، حيث يصبح البحث عن الخلود الفردي أو الرمزي جزءاً من استراتيجيات البقاء والنفوذ. الحديث المسرب ربما لم يكن مجرد ميكروفون مفتوح، بل رسالة للعالم بأن الخلود، بالنسبة لهذين الرجلين، ليس حلماً شخصياً فقط، بل استراتيجية للبقاء في التاريخ، سواء عبر الجسد أو المؤسسة.

بهذا، نجد أنفسنا أمام عالم جديد تختلط فيه البيولوجيا بالسياسة، ويتحوّل فيه البحث عن الحياة الطويلة والخلود إلى جزء من فهم السلطة واستراتيجياتها المعاصرة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بيولوجيا السياسة شي وبوتين بيولوجيا السياسة شي وبوتين



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon