ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ

ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ

ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ

 لبنان اليوم -

ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ

بقلم:تركي الدخيل

لأَبِي الحَسَن التِّهَامِيّ (ت416هـ)، قصيدةٌ رائيةٌ فِي رِثَاءِ ابنِهِ، تُعَدُّ مِنْ أَشْهَرِ المَرَاثِي، وَأَجْمَلِ قَصَائِدِ الشِعْرِ العَرَبِيّ.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي: «وَفَيَاتُ الأَعْيَان»، عِنْدَمَا تَرْجَمَ لِأَبِي الحَسَنِ التِّهَامِي، الشَّاعِر:

«وَلَهُ مَرْثِيَةٌ فِي وَلَدِهِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ صَغِيراً، وَهِيَ فِي غَايَةِ الحُسْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الإتْيَانِ بِهَا، إلَّا أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إنَّهَا مَحْدُودَةٌ، فَتَرَكْتُهَا، لَكِنْ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيْتَانْ فِي الحُسَّادِ، وَمَعْنَاهُمَا غَرِيبٌ، فَأثْبَتَهُمَا»، ثُمَ أَوْرَدَ البَيْتَيْن...

وَكَلَامُ ابْنِ خَلِّكَان جَديرٌ بِالتَّأمُّلِ، وَلَفَتَنِي مِنْهُ الإِعْرَاضُ عَنِ الإِتْيَانِ بِالقَصِيدَةِ كَامِلَةٍ، مُتَعَلِّلًا بِقَوْلِ النَّاسِ: إِنَّهَا مَحْدُودَةٌ!

وقد أعياني البحث عن معنى كون القصيدة «محدودة»، فَشَرَّقْتُ وَغَرَّبْتُ فِي افْتِرَاضَاتِ لَا تَسْتَنِدُ إلَى عِلْمٍ، وَلَا تَغْرِفُ مِنْ مَعْرِفَةٍ. وَمَا لَا يَكُونُ العُلْمُ أَسَاسَه أَوِ المَعْرِفَةُ سَاسَهُ، فَالْجَهْلُ أَصْلُهُ وَفَصْلُهُ!

وَبَعدَ عَنَاءٍ وَقَعْتُ فِي: «الوَافِي بِالوَفَيَات»، عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بنِ أيبكَ الصَّفدِيّ، فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ زَيْدُون:

«وَمِنْ شِعْرِهِ النُونِيَّة الْمَشْهُورَة، الَّتِي أَوَّلُهَا:

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيلاً مِنْ تَدَانِينَا وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقْيَانَا تَجَافِينَا

وَاشْتَهَرَتْ، إِلَى أَنْ صَارَت مَحْدُودَةً، يُقَالُ: مَا حَفِظَهَا أحدٌ إِلَّا وَمَاتَ غَرِيبًا».

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى، فِي القَصِيدَةِ المَحْدُودَةِ، أنَّ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ يُرَدّدُهَا، يُصَابُ بِمَا تَطَرَّقَتْ لَهُ القَصِيدَةُ من عِلَّةٍ أوْ دَاءٍ، بِحَسَبِ هَذِهِ النَّظَرِيَّة!

وكنتُ قرأتُ شَيئاً مُشَابِهاً لِمَا سَبَقَ، بِشَأنِ كِتَابِ أَبِي حَيَّانَ التَّوْحِيدِي: «أخلاقُ الوزيرين»، فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرَأَ الكِتَابَ، أُصِيبَ بِكَذَا وَكَذَا!

وَهِيَ طَرِيقَةٌ لِلتَّنْفِيرِ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، رُبَّمَا تَعَاطُفاً مَعَ الصَّاحِب بنِ عَبَّاد!

وأعجَبُ كَيفَ تَنْطَلِي هَذِهِ الخُزَعْبَلَاتُ عَلَى عُلَمَاءَ وَأدَبَاءَ لَهُمْ وَزْنُهُمْ وَقِيمَتُهُمْ؟!

هَذهِ الأُطْرُوحَاتُ لَيستْ سِوَى أَسَاطِيرَ بَالِيَةٍ، لَا صِحَّةَ لَهَا، وَلَا يُقِرُّهَا عَقلٌ ولَا نَقْل، بلْ لَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِالنَّهْي عَنِ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَالمُقْبِلِ مِنَ الأَحْدَاثِ غَيبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله، وَلَا عَلَاقَةَ لِلْأَحْدَاثِ المُقْبِلَةِ بِمَوْضُوعِ كِتَابٍ، وَلَا حَدِيثِ قَصِيدَة.

أَعْرَضَ ابْنُ خَلِّكَان، عن إيرادِ مَرْثِيَة التِّهَامِيِّ كَامِلَةً، رَغمَ إِعْجَابِهِ بِهَا، فَوَصَفَهَا بِأنَّهَا «في غَاية الحُسْنِ»، إِلَّا أَنَّهُ أوْرَدَ مِنهَا مُقْتَطَفَاتٍ، ورَكَزَّ مِنْهَا عَلَى بَيْتَينِ فِي الحُسَّاد، استَغرَبَ مَعنَاهُمَا...

قَالَ التِّهَامِيّ:

إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِـدِيَّ لِحَــرِّ مَا

ضَمَّتْ صُدُورُهُمُ مِنَ الْأَوْغَـارِ

نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ

فِـي جَـنَّةٍ وَقُلُـوبُـهُـمْ فِـي نَارِ

والغريب أنَّ الشَّاعِرَ رُغم ما يُكابِدُ من حَسَدِ الحَاسِدِينَ، إِلَّا أَنَّهُ كشَفَ عَنْ رَحمتِهِ لِحُسَّادِهِ! فَكيفَ يَرجمُكَ الحَاسِدُ بِنيرَانِ تَمَنّي زَوَالِ مَا عِندَكَ مِنْ نِعْمَةٍ وَتُهْدِيهِمْ إِزَاءَ ذَلكَ رَحْمَتَكَ بِهِم؟!

وَيُبيّنُ التِّهَامِي أنَّ رَحْمَتَهُ مَرَدُّهَا مَا تَحْمِلُهُ صُدُورَ حُسَّادِه مِنْ الأَوْغَار!

الأَوْغَارُ: جَمْعُ وَغْرٌ، وَهُوَ: احْتِرَاقُ الْغَيْظِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فِي صَدْرِهِ عليَّ وَغْرٌ، بِالتَّسْكِينِ، أَي ضِغْنٌ وَعَدَاوَةٌ وتَوَقُّدٌ مِنَ الْغَيْظِ، وَالْمَصْدَرُ بِالتَّحْرِيكِ. وَيُقَالُ: وَغِرَ صدرُه عَلَيْهِ، يَوْغَرُ وَغَرًا، ووَغَرَ يَغِرُ إِذا امتلأَ غَيْظًا وَحِقْدًا، وَقِيلَ: هُوَ أَن يَحْتَرِقَ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ. * «لسان العرب».

بعدَ بَيانِ مَعْنَى الأَوْغَارِ، يُمْكِنُنَا تَفَهُّم شيءٍ منْ دَوَافِعِ تِلكَ الرَّحْمَة.

فِي البَيتِ الثَّانِي يَمْضِي الشَّاعِرُ فِي بَيَانِ دَوَافِعِ رَحْمَتِهِ، ذَلكَ أَنَّ حَاسِدِيهِ، عِندمَا تأمَّلُوا قَضَاءَ اللهِ فِيهِ بِنُزُولِ مُصِيبَةِ فَقْدِ ابنِهِ، فَأوْقَعَهُمْ تَأمُّلُهُمْ فِي أَحَاسيسَ مُتَناقِضَةٍ مُتَضَادَّةٍ، فَعُيُونُهُمْ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ فَاجِعَتِهِ مِنْ فَرَحِهَا فِي جَنَّة سَعَادةٍ، وفي الوقتِ ذاتِه فإنَّ قلوبَهمْ تَغلِي كَالمَرَاجِلِ بِمفعولِ الحَسَدِ الّذِي يَقذفُ بنيرانٍ متقدةٍ ملتهبةٍ في حَشَى الحَاسِدِ، فَكَانَ هَذَا التَّضَاد عندهمْ مَدعَاةَ رَحمَةِ الشَّاعِرِ لِحَاسِدِيهِ عَلَى مَا يُقَاسُونَ مِنِ اضْطِرَاب.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 22:24 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تتمتع بالنشاط والثقة الكافيين لإكمال مهامك بامتياز

GMT 00:05 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 20:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 08:41 2018 السبت ,15 كانون الأول / ديسمبر

أحمد في ورطة؟

GMT 18:57 2025 الأحد ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات عبايات لصيف 2025 ستجعلك تبدين أصغر سناً

GMT 13:03 2020 الإثنين ,07 كانون الأول / ديسمبر

زاهى حواس يكشف طلب الرئيس السادات عندما زار المتحف المصرى

GMT 14:57 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

حريق داخل بسطة خضار بداخلها غالونات بنزين ومازوت في بعبدا

GMT 23:57 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

5 نصائح تمكنك من الانسجام والتفاهم مع شريك حياتك

GMT 22:53 2021 الإثنين ,08 آذار/ مارس

انا والكورونا و المرأة في يومها العالمي

GMT 16:11 2022 الجمعة ,20 أيار / مايو

لبنان يوجه ضربة مزدوجة لطهران
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon