الرفيق ممداني في منهاتن والقراءة المأزومة

الرفيق ممداني في منهاتن والقراءة المأزومة

الرفيق ممداني في منهاتن والقراءة المأزومة

 لبنان اليوم -

الرفيق ممداني في منهاتن والقراءة المأزومة

بقلم : يوسف الديني

فوز زهران ممداني في سباق رئاسة بلدية نيويورك لم يكن مجرد حدث انتخابي محلي، بل تحوُّل سياسي عميق في قلب النظام الأميركي، ومؤشر على أن التيارات التقدمية والاشتراكية الديمقراطية بدأت تجد لنفسها موقعاً في الساحة التي لطالما كانت حكراً على النخب التقليدية للحزبين الكبيرين. أن ينتصر مرشح يصف نفسه صراحةً بأنه «اشتراكي ديمقراطي» في المدينة التي تمثل رمز الرأسمالية العالمية، وسط هيمنة البنوك والعقارات والإعلام، فهذا يعني أن المزاج السياسي الأميركي بدأ يتحرك في اتجاه غير مألوف منذ عقود.

وفقاً لتحليلات الصحف الأميركية وتعليقات الخبراء والقراءة الأولية لمراكز الأبحاث، فإن هذا الفوز يعكس تصاعد تيار يساري جديد داخل الحزب الديمقراطي، يتجاوز الخطابات الهوياتية إلى أجندة تضع الطبقة العاملة والشباب في صدارة الاهتمام. فممداني ركز حملته على قضايا ملموسة مثل الإسكان، ورعاية الأطفال، والنقل العام، وهي قضايا أعادت تعريف السياسة بلغة الحياة اليومية للناس بعد أن كانت رهينة الصراعات النخبوية والمصالح الكبرى. أكثر ما أثار الانتباه هو أن فوزه جاء رغم حملة تشهير ضخمة من خصمه أندرو كومو، المدعوم من «وول ستريت» ووسائل الإعلام الكبرى، التي حاولت وصمه بمعاداة السامية بسبب انتقاده الحرب الإسرائيلية على غزة. لكن النتيجة جاءت معاكسة تماماً: فقد حصد أصواتاً واسعة داخل الجالية اليهودية، وأظهر أن الموقف الأخلاقي المناهض للعنف في فلسطين لم يعد خطاً أحمر في السياسة الأميركية كما كان سابقاً.

هذا التحول يعكس، حسب مركز «بروكينغز»، بداية تصدّع في التحالف التقليدي بين الحزب الديمقراطي والمراكز المالية والإعلامية التي كانت تصوغ أجندته لعقود. أما بالنسبة إلى دونالد ترمب، فإن صعود ممداني يشكل تحدياً مزدوجاً. فمن جهة، هو يهدد السردية التي بنى عليها ترمب حملاته المتكررة ضد ما يسميه «اليسار المتطرف» و«الاشتراكيين الخطرين». غير أن هؤلاء «الاشتراكيين» باتوا اليوم يحصدون أصواتاً حقيقية في الانتخابات، ويتحدثون باسم قضايا معيشية لا يمكن للناخب العادي تجاهلها.

ومن جهة أخرى، فإن نجاح نموذج تقدمي في نيويورك يعقّد مهمة الحزب الجمهوري في المدن الكبرى، التي تمثل بيئة معادية تقليدياً له، لكنه كان يراهن على ضعف منافسيه هناك. خطاب ترمب الغاضب، الذي وصف فيه ممداني بـ«الشيوعي المجنون»، لم يُضعف خصمه بل زاده حضوراً، وأظهر أن أدوات الهجوم القديمة لم تعد فعالة أمام جيل سياسي جديد يتقن لغة التنظيم الرقمي والعمل الميداني. في المقابل، يجد الحزب الديمقراطي نفسه أمام اختبار وجودي: هل يتبنى هذا التحول الجذري ويعيد بناء نفسه كحزب للطبقة العاملة؟ أم يواصل الارتهان لتحالفات المال والإعلام فيخسر جيله الجديد من الناخبين؟ فوز ممداني فجّر نقاشاً داخلياً واسعاً بين جناحَي الحزب؛ الأول يسعى إلى تجذير الأجندة الاجتماعية والاقتصادية التقدمية، والآخر يُحذر من الابتعاد عن الوسط خوفاً من خسارة الولايات المتأرجحة. تحليل مجلة «جاكوبين» رأى أن ما حدث في نيويورك قد يكون مقدمة لـ«إعادة تشكيل السياسة الأميركية من الداخل»، فيما رأى باحثو معهد «أميركان إنتربرايز» المحافظ أن هذا الانعطاف قد يدفع الجمهوريين إلى إعادة النظر في خطابهم الاقتصادي لمخاطبة شرائح العمال والمتضررين من العولمة، بدلاً من الاكتفاء بالخطاب الثقافي والهوياتي.

من زاوية أعمق، فإن نجاح ممداني يؤكد أن الوعي السياسي الأميركي بدأ ينتقل من ثنائية الهوية والعرق إلى ثنائية الطبقة والعدالة الاجتماعية. فالناخبون الذين التفّوا حوله لم يفعلوا ذلك بدافع الانتماء العرقي أو الديني، بل بسبب شعور متنامٍ بأن النظام القائم لم يعد يلبي حاجاتهم، وأن الطبقة السياسية في واشنطن باتت بعيدة عن واقعهم. في هذا السياق، يمكن قراءة الحدث على أنه مؤشر على نهاية مرحلة «ما بعد ترمب» التي أعادت الشعبوية اليمينية إلى الواجهة، وبداية مرحلة جديدة تتشكل فيها «شعبوية يسارية» ذات طابع حضري وشبابي، لا تتحدث فقط بلغة الغضب، بل بلغة البرامج والسياسات الاجتماعية. ومع أن هذه الموجة لا تزال محدودة جغرافياً، فإنها تمتلك مقومات التوسع: التنظيم الرقمي، والزخم الطلابي، واستثمار الغضب من التفاوت الاقتصادي.

بالنسبة إلى مستقبل الحزبين، يبدو أن الحزب الديمقراطي إما أن يتطور ليستوعب هذا التيار ويحوّله إلى طاقة تجديد داخلية، وإما أن يواجه انقساماً خطيراً يشبه ما شهدته الأحزاب اليسارية في أوروبا. أما الحزب الجمهوري، فربما يجد نفسه مضطراً لتطوير أجندة اقتصادية أكثر شمولاً إذا أراد منافسة اليسار على أرضية العدالة الاجتماعية، وهو تحول لا يخلو من التناقضات داخل صفوفه المحافظة. أما ترمب نفسه، فإن بقاءه السياسي يعتمد على قدرته على تحويل ممداني إلى «فزّاعة انتخابية» تُخيف الناخبين من عودة الاشتراكية، لكنَّ هذا الخطاب قد يفقد بريقه مع مرور الوقت إذا أثبت ممداني كفاءة في الحكم أو شكَّل تحالفاً أوسع يتجاوز حدود اليسار التقليدي. مستقبل السياسة الأميركية بعد فوز ممداني لن يُقاس بحجم السلطة التي سيحصل عليها في نيويورك، بل بقدر ما ستتمكن أفكاره من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الحزبين وطبقاتهما الشعبية.

فالرجل القادم من أحياء المهاجرين بات اليوم وجهاً جديداً لمدينة تعكس صورة أميركا بأكملها: بلد يختبر توازنه بين الرأسمالية المتوحشة والعدالة الاجتماعية الممكنة. وفي هذا التوازن المرهق، قد يكون ممداني، بما يمثله من جيل وقيم، أول إشعار بأن أميركا بدأت تبحث عن نفسها من جديد.

القراءة العربية لهذا الحدث كشفت عن وجه آخر للأزمة الثقافية والسياسية في المنطقة. فقد استقبل كثيرون فوز ممداني بفرحٍ عاطفي مبالَغ فيه، كأنه انتصار رمزي للإسلام أو للعالم الجنوبي في قلب الإمبراطورية الأميركية.

امتلأت وسائل التواصل بعبارات الاحتفاء، كأن انتخاب عمدة في مدينة أميركية يعوّض عن الإخفاقات العربية والإسلامية تجاه أزماتها ومعضلاتها. هذا التلقي العاطفي لا يعكس فهماً للحدث بقدر ما يعبِّر عن جرح نرجسي في الوعي العربي، يبحث عن أي انتصار رمزي خارجي لترميم الشعور الجمعي بالعجز.

باختصار؛ ممداني ليس نتاجاً لهويته الدينية أو العرقية، بل ثمرة حراك اجتماعي وسياسي أميركي داخلي، مرتبط بالتحولات الطبقية والمجتمعية في نيويورك، وليس بموقعه كمسلم أو ابن المهاجرين. تحويل هذا الحدث إلى لحظة «انتصار للأمة» يكشف عن أزمة خطاب عربي يعيش قلق الهوية أكثر مما يعيش وعي السياسة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرفيق ممداني في منهاتن والقراءة المأزومة الرفيق ممداني في منهاتن والقراءة المأزومة



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon