طروادة لا تغيب وإن غاب هوميروس

طروادة لا تغيب وإن غاب هوميروس

طروادة لا تغيب وإن غاب هوميروس

 لبنان اليوم -

طروادة لا تغيب وإن غاب هوميروس

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

الحرب لا تغيب عن دنيا البشر، إلا لتعود بعنف وأسلحة تفوق سابقاتها. تتغير العقول وتتحرك الحدود. حفظ البشر في رؤوسهم تاريخ المعارك منذ آلاف السنين. أساطير قديمة صوّرت معارك، هناك من صدّقها، وتلهّى بها آخرون. قصة معركة طروادة زينتها قدم أخيل بشحنة تشويق طريفة، وما زالت تجد لها أماكن في الجامعات والأعمال الدرامية. لا يمكنني أن أنسى محاضرات البروفسور الكبير الدكتور عبد اللطيف أحمد علي، أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وهو يتمايل ضاحكاً حينا، ومتجهماً أحياناً، ويتألق في سرد ملحمة طروادة. يصور تلك الملحمة بالصوت والحركة، حتى يجعلك تعيش في خضمها، أو أنت في حضرة هوميروس كاتب الإلياذة، يلقيها من فوق مسرح مهيب. معركة استمرت قرابة العشر سنوات، أشعلتها فتاة غاية في الجمال. الدكتور عبد اللطيف أحمد علي، يفكك من خلال الأسطورة نوازع العنف الكامنة في الذات البشرية. البروفسور الإيطالي ألساندرو باربيرو، أستاذ تاريخ العصور الوسطى، موسوعة تاريخية يتابع محاضراته التي يلقيها متنقلاً بين المدن الإيطالية، وتتابعها حشود كبيرة من الإيطاليين والإيطاليات. تشدّك سعة علمه، وموضوعيته الفائقة. في محاضرة طويلة عن أسطورة الإلياذة، تحدث عن صناعة هوميروس لتلك الأسطورة، بما فيها من أماكن وشخصيات، وغاص عبرها في النوازع العنيفة الكامنة في كينونة البشر. حاضر البروفسور باربيرو عن الحروب القديمة والحديثة. الحروب الصليبية كُتب وقيل عنها الكثير. هناك من تناولها باعتبارها حرباً دينية بحتة، وهناك من قال عنها إنها كانت من أجل إيقاف التوسع الإسلامي. البروفسور باربيرو قدّم تفاصيل تلك الحرب الطويلة، بمدّها وجزرها على الأرض، وأسماء قادتها من الطرفين، وتواريخ المواجهات. خلص إلى أن تلك الحرب كان محركها الحقيقي هو مشروع توسع استعماري أوروبي، وليس تحرير بيت المقدس المسيحي. البروفسور باربيرو يواصل هذه الأيام محاضراته في مدن وجامعات إيطالية مختلفة، ويكرر مؤكداً أن فلسطين هي أرض الفلسطينيين، وأن ما تشهده غزة من حرب إبادة هي حرب توسعية استعمارية. باربيرو يواصل محاضراته عن تاريخ الحروب، ويحلل دوافعها.

الحرب روافد صامتة تصبّ في نهر الحياة البشرية. تتعدد محركاتها وتتغير، لكنها لا تغيب ما بقيت الحياة. حروب أهلية تنشب بين أطراف شعب واحد، يتقاتل فيها الإخوة على حدود أراضيهم، أو على المياه والطعام في سنوات الجفاف والجوع. كلما تقدم البشر في العلم، وقفزت التقنية لتوفر أدوات الرفاهية، وكفت البشر عن عناء الجهد العضلي، كان السلاح هو التوأم الذي يسابق دون توقف ما يبدعه العقل البشري على مرّ السنين. القتال هو الكابوس الحاضر دائماً، والخوف من القريب والبعيد، ناقوس لا يغيب، وإن صمت. كتب المؤرخون عن المعارك الصغيرة والكبيرة، التي يكون البشر فيها طرائد يلاحقها الموت. الأدباء والمفكرون والفلاسفة، وكذلك القادة السياسيون، كتبوا عن الحروب. الروائي الروسي تولستوي، في روايته «الحرب والسلام»، التي تمحورت حول حرب نابليون بونابارت على روسيا، طاف في نوازع العنف الكامنة في النفس البشرية، ورسم كيمياء الدم القاتلة. تلك الحرب كانت تعبيراً عن مرحلة تاريخية، حرّكتها دوافع السيطرة والتوسع والهيمنة على الآخر. الثمن دائماً هو حياة الإنسان المهاجم والمدافع. الحرب العالمية الأولى، التي أطلق عليها في البداية الحرب العظمى، كانت الحرب التي خاضتها إمبراطوريات كبيرة بعضها ضد بعض. استخدمت فيها أسلحة لم تعرفها الحروب من قبل، مثل الطائرات والأسلحة الكيماوية. كان الضحايا بالملايين من جميع الأطراف المتحاربة. صُدم الجميع المنتصرون والمنهزمون، بحجم الموت والدمار. تغيرت الخرائط وذابت كيانات قديمة، وقامت دول جديدة. في مؤتمر فرساي، واجه ساسة العالم أنفسهم، وفي عقولهم صدى طلقات البنادق والمدافع، وأمام أعينهم أنهار الدماء، وإن لم تغب في ذلك الاجتماع العالمي الكبير الأطماع والمصالح حتى نزعات الانتقام. لتكن تلك الحرب العظمى التي قُتل فيها الملايين من البشر هي الحرب الكبرى الأخيرة فوق الأرض. ومن أجل تحقيق هذا الهدف الكبير، تحرك القادة السياسيون نحو إنشاء جسم سياسي عالمي، يكرس السلام ويعمل على حلّ المشاكل بين الدول سلميا، فكان الاتفاق على تأسيس ما سُمي بعصبة الأمم. في أعماق بحر الدم الذي تدفق في الحرب الكبرى الأولى، تجمعت رواسب متفجرات حية، انفجرت في حرب عالمية ثانية أكبر من سابقتها. كان ضحاياها أكثر ودمارها أوسع، وغيّرت وجه الكرة الأرضية بشكل غير مسبوق. مذكرات القادة السياسيين والعسكريين، والأعمال الأدبية، التي تناولت يوميات تلك الحرب، وما كتبه المؤرخون، كشف وحشية الدوافع العنيفة الكامنة في ذوات البشر. النار والدم والقتل هي نتاج الحروب، التي تولد في الرؤوس أولاً، كما جاء في مقدمة ميثاق الأمم المتحدة. ماذا كان سيكتب هوميروس لو شهد حروب زمننا؟ طروادة لا تغيب، وإن غاب هوميروس.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طروادة لا تغيب وإن غاب هوميروس طروادة لا تغيب وإن غاب هوميروس



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon