بقلم : عبد الغني سلامة
بشكل عام، كل فرد فينا لديه قناعة راسخة وإيمان لا يتسرب إليه الشك، أو على الأقل مقتنع بأن مشاعره النفسية والعاطفية غالباً ما تكون سليمة، وأن ميوله الشخصية تجاه أي قضية دوماً صائبة، وبالاتجاه السليم، أما تجاربه الحياتية فهي حكيمة، ومغامراته السابقة وحتى لو كانت متهورة وظالمة وفيها اعتداء على الآخرين فهي دليل شجاعة، ومغفورة، لأنها كانت أيام الشباب.
وكل شخص يرى أن عاداته اليومية طبيعية جداً.. التقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة في محيطة هي أيضا طبيعية وصائبة.. الإجماع الشعبي على مسألة ما هو دليل التوافق على الحق.. أما ما يقوله خطيب الجمعة (أو الأحد)، أو فتاوى المشايخ والقساوسة فهي عين الحكمة وقمة الصواب.. وكل القادة السياسيين والحزبيين الذين يمثلونه، أو قريبون منه، أو من نفس حزبه وطائفته هم شرفاء وقديسون وينبغي احترامهم وتأييدهم.
الشعراء والأدباء والفلاسفة الذين عرفهم من الكتب المدرسية، هم أيضا جديرون بالاحترام، وكل ما قالوه صحيح.
الفنانون المحبوبون، والمشاهير، والإعلاميون، وكل من اعتاد رؤيتهم وسماع أخبارهم هم غالباً ملهمون وعظماء.
الدين الذي وجد أهله عليه، هو الدين الحق والقويم والصحيح، وما دونه باطل.. الطائفة التي ينتمي إليها هي الطائفة الصحيحة، أو الفرقة الناجية، والبقية مصيرهم في الجحيم.. الإله الذي يعبده هو الخالق الحق، والذي يتوجب عبادته (والحديث هنا عن أتباع الديانات الوثنية).. النبي الذي يتبعه هو المرسل الوحيد والمعتمد من قبل الله سبحانه وتعالى.
ما ذكرناه سابقاً (العواطف، والميول، والقناعات الشخصية، والأفكار، والتوجهات السياسية والأيديولوجية، والأعراف والقيم، والانتماء الديني والطائفي والحزبي..)، هي في المحصلة ما يشكل التكوين النفسي والعقلي والروحي لكل إنسان.. ورغم تباينها الواضح، واختلافاتها الكثيرة، وتناقضاتها الشديدة من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر.. نجد دوماً أن كل شخص يرى أن اختياره هو الاختيار الصحيح، وأنه توصل إليه بعقله وذكائه وحسن تفكيره، وهداية الله له.
وفي حقيقة الأمر كل ما سبق عبارة عن عمليات تكيف مع المحيط، واندماج مع الواقع، وتماهي مع ما هو سائد.. أي عبارة عن استجابة تلقائية لجملة من الظروف والعناصر البيئية والوراثية التي ولد الإنسان فيها، دون اختيار منه؛ فنشأ عليها ولم يختبر غيرها، فوجد أهله يؤمنون بأشياء، ويتبعون أنماطاً معيشية وسلوكية معينة، ويمجدون أشخاصاً معينين، لديهم معاييرهم وقيمهم وتقاليدهم.. فتكيف عقله على أن ما يراه وما يسمعه وما يختبره هو الصواب الوحيد.. وهو المسار الوحيد الذي يجب إتباعه.. ثم تأتي المدرسة، والجامع (أو الكنيسة، أو المعبد) وإعلام الدولة، وكل ما هو سائد وشائع في المجتمع ليكرس ما تكيف عقله معه، ويعطيه الشرعية.
عندما يكبر هذا الشخص، ويتفتح عقله، وتزداد مداركه، ويتعرف على مجتمعات وأديان وطوائف وأحزاب وأفكار وعوالم جديدة ومختلفة.. سيرى أن كل ما هو مختلف عنه غريب، ومستهجن، وباطل.. لأن المعيار الذي سيحتكم إليه قد تشكل وصُنع في وقت سابق، صنعه له الآخرون (الوالدان، الأقارب، المدرسة، المجتمع، الإعلام..) وقد وترسخ في عقله وضميره.
باختصار، ما تعتقد أنه يمثل رأيك الشخصي، والحر، لم يكن في الأساس من اختيارك، إنما فُرض عليك في مرحلة لم تكن تمتلك فيها حرية الاختيار.. وما تظن أنه قناعاتك الشخصية التي بنيتها بنفسك وعقلك، هي في الأساس قناعات أشخاص سبقوك، صاغوها لك، لتصلك في قالب جاهز.. وما تراه الحق والحقيقة، يراه ملايين غيرك الحق والحقيقة، مع أن الفروقات والاختلافات بينك وبينهم شديدة التباين والتناقض.. (ملاحظة: كل شخص سيعتقد أنه مستثنى من هذه القاعدة!).
أي أن تكوينك النفسي والفكري هو نتاج عملية تكيف تاريخية كنت فيها الحلقة الأخيرة، وليس أكثر من ذلك، والمعايير وأدوات القياس والمؤشرات التي استخدمتها للوصول إلى «الصواب» و»الحقيقة»، وبناء شخصيتك الخاصة لم تكن معايير وأدوات صحيحة، وبالتالي الأفكار التي تراها صائبة ليست بالضرورة صائبة، مهما كانت درجة اقتناعك وإيمانك بها.. ببساطة لأنها لم تكن تخضع لقواعد المنهج العلمي والتجريبي، ولم تتعرض لأي عمليات نقد وتشكيك.
إنما في الأغلب وصلتك عن طريق التلقين، والذي بدأ معك منذ لحظة ولادتك.
هذا لا يعني أبدا أنك مخطئ، أو أنك على الباطل، وأن أفكارك ومعتقداتك غير صحيحة.. المقصود هنا فقط دعوة لأن نتواضع قليلاً، ونتخلى عن التعصب والتشدد لأي فكرة نؤمن بها، وضرورة مراجعة وتقييم أفكارنا وآرائنا بين فترة وأخرى، لأننا إذا أدركنا هذه الحقيقة (وهي أيضا حقيقة نسبية) سنجد في كل مراجعة أخطاء، أو نواقص، أو أشياء تستدعي التفكير والتساؤل.. وهي أيضا دعوة لأن نتقبل الآخرين، واختلافاتهم.. وأن ندرك أنه لا وجود للحقيقة المطلقة.
بهذه الطريقة فقط نتطور ونرتقي، ونحل خلافاتنا بالعقل والتعقل.