الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

 لبنان اليوم -

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

التحديث التقني أو الإداري لا يعنِي التَّقدمَ الحضاريَّ، هذه حقيقةٌ من السهل الوصول إليها عبر تأمل الواقع المعيش، لا أقلّ ولا أكثر، ففي عالمنا اليوم دولٌ متعددةٌ ومجتمعاتٌ متباينة تمتلك كل المنتجات الحديثة، من وسائل وأدوات ومخترعاتٍ ماديةٍ وغير ماديةٍ، ففي كل منزلٍ جهاز تلفاز، يستقبل قنوات العالم عبر الأقمار الاصطناعية، وبداخله منصات متعددة للبرامج والدراما، وفي كل يدٍ هاتفٌ جوال متصل بالإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وعشرات المنتجات والمخترعات الحديثة، والحديثة جداً، فهل هذه تعني الحضارة؟

بالتأكيد لا، لأنَّ وجودها في كل منزلٍ، ولدى كل شخصٍ، دليلٌ على نمطٍ استهلاكي عالٍ، ومنتجاتٍ تلبي الطلب حسب الملاءة المالية لكل فردٍ، ويصح هذا في تطور الفكر الإداري لأي مؤسسةٍ عامةٍ أم خاصةٍ، فثمة شركاتٌ ناجحةٌ نجاحاً مبهراً خرجت من رحم مجتمعات لا تنتمي للعالم الأول حضارياً، والأمثلة كثيرة، فما الذي يصنع الحضارة؟ وكيف يمكن الحكم على مجتمعٍ أو دولة ما بأنَّه متحضرٌ، أو أنَّها متقدمة؟

مع الاعتراف بحجم ضخامة السؤال، إلا أن تلمّس الإجابة عنه ممكن، أقله في الخطوط العريضة والزوايا البارزة للنظر، والإجابة تكمن في العلم والمعرفة، وفي الفكر والفلسفة، وما يتفرع عنها وهو كثيرٌ، فالعلوم لا تُحصى تشعباً وتوسعاً وتنظيراً، وهي تعتمد على اكتشاف الحقائق والبناء عليها، واكتشاف المجهول من المعلوم، والخلوص من المقدمات إلى النتائج، وتحويل التجربة إلى خبرةٍ، ونشر المعرفة عبر التعليم والمهارات عبر التدريب، وهكذا في تفاصيل لا تنتهي.

أمَّا في الفكر والفلسفة فالمجال أرحب وأوسع، وأكثر إثارةً للجدل، وتدخل فيه أنواعٌ من العلوم الحديثة، مثل العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا، والعلوم الاجتماعية كعلم الاجتماع وعلم النفس وغير ذلك من العلوم، أمَّا الفلسفات الكبرى ومدارسها القديمة والحديثة فهي مجالٌ مفتوحٌ دائماً على التطور ما دام البشر يتطورون، وبقدر ما تكون المجتمعات منفتحةً على العلم والفلسفة وطرح الأسئلة المستحقة والتفتيش عن الإجابات المقنعة، تنال نصيبها من الحضارة والتقدم.

مَن يعتقد، من فردٍ أو مجتمعٍ أو دولةٍ، أن الحضارة مجرد منتجاتٍ ماديةٍ يمكن اقتناؤها فهو قابعٌ في ظلام الجهل، وغارقٌ في وهاد التخلف مهما امتلك منها، ومن يحسب أن الأساليب الإدارية وحدها قادرةٌ على الرقي بالمجتمعات والدول دون فلسفةٍ وفكرٍ وتنظيرٍ فإنما يرسم طريقاً منظماً للجهل والتقهقر الحضاري، وإنما بالعلم والفلسفة تبنى الحضارات.

مَن يقرأ التاريخ يعلم جيداً أن انتقال الحضارات من ثقافة إلى ثقافةٍ، ومن أمةٍ إلى أخرى، لا يسير سيراً حثيثاً، بل يأخذ وقته قروناً من الزمن، والحضارة الحديثة اليوم خير مثالٍ، فهي إنما أصبحت كذلك في أوروبا والغرب، لأنها اكتنزت معارف وفلسفات الحضارات السابقة، وكانت لها في التاريخ مسيرةٌ ممتدةٌ على مدى ثلاثة قرونٍ، من عصر النهضة إلى عصر الأنوار، إلى العصر الحديث.

يخلد التاريخ أفراداً امتلكوا العلم والفكر حسب لحظاتهم التاريخية التي يعيشونها، ففي أوج الحضارة العربية أو الإسلامية كانت الأسماء كثيرةً، مثل ابن سينا والبيروني في المشرق وعشرات غيرهما، وحين بدأت هذه الحضارة الأفول كان ابن رشد في المغرب ينشر العلم والفكر، اللذين رفضهما مجتمعه وتلقاهما تلاميذه في حضارة أخرى كانت في بداية تشكلها في أوروبا.

كان تلاميذ ابن رشد يأتون لتلقّي العلم والفكر في الأندلس من ممالك أوروبا، ومن علية القوم فيها، وقد حملوا علمهم وفكرهم لتلك البلدان، وواجهوا رفضاً قوياً داخل مجتمعاتهم، وبالذات من الكنيسة التي كانت تمثل الفكر الديني، ولم تنِ الكنيسة في حربها لهم، ولكن العلم قويٌ بنفسه، والفكر يفرض شروطه على المجتمعات المقبلة على النهوض الحضاري، وانتصر العلم هناك، وهزمت الكنيسة عبر رموزٍ للعلم الديني والفلسفي، وعبر ملوكٍ وفَّروا الحماية لهؤلاء العلماء والمفكرين، حتى استوت هذه الحضارة على سوقها، وما زالت حتى اليوم تقود العالم.

الفرد لا يستطيع منافسة المؤسسة لأنَّها أقوى منه ما لم تدعمه مؤسسة أخرى أو أقوى، ولولا الأمير فريدريك الثالث لما استطاع مارتن لوثر ترجمة الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى الألمانية الدارجة في وقته، ولكن حماية الأمير له مكَّنت فكره من الانتشار، ومواجهة المؤسسة الكنسية المتسلطة، والأمثلة كثيرةٌ.

أخيراً، فالذي يلاحق تطورات الأحداث اليومية سياسياً واجتماعياً وإعلامياً دون تأسيسٍ علميٍ وفلسفيٍ يصبح فريسة سهلة لـ«التفاهة الممنهجة».

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة



GMT 19:57 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 19:29 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

الكتب الأكثر مبيعًا

GMT 11:46 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

الرئيس السيسى والتعليم!

GMT 19:13 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

أصالة ودريد فى «جوى أورد»!

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 22:24 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تتمتع بالنشاط والثقة الكافيين لإكمال مهامك بامتياز

GMT 00:05 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 20:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 08:41 2018 السبت ,15 كانون الأول / ديسمبر

أحمد في ورطة؟

GMT 18:57 2025 الأحد ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات عبايات لصيف 2025 ستجعلك تبدين أصغر سناً

GMT 13:03 2020 الإثنين ,07 كانون الأول / ديسمبر

زاهى حواس يكشف طلب الرئيس السادات عندما زار المتحف المصرى

GMT 14:57 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

حريق داخل بسطة خضار بداخلها غالونات بنزين ومازوت في بعبدا

GMT 23:57 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

5 نصائح تمكنك من الانسجام والتفاهم مع شريك حياتك

GMT 22:53 2021 الإثنين ,08 آذار/ مارس

انا والكورونا و المرأة في يومها العالمي

GMT 16:11 2022 الجمعة ,20 أيار / مايو

لبنان يوجه ضربة مزدوجة لطهران
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon