ولو أكل نصفه

ولو أكل نصفه!

ولو أكل نصفه!

 لبنان اليوم -

ولو أكل نصفه

بقلم:سليمان جودة

الذين سبقونا لم يصوغوا أمثالهم الشعبية من فراغ، ولكنهم صاغوها في الغالب عن خبرة تراكمت، وعن تجربة في الحياة تعددت، حتى صار كل واحد من تلك الأمثال، وكأنه حكمة مكتملة هبطت من السماء!
من بين الأمثال التي نرددها في حياتنا، بشكل مستمر، وربما دون أن نعي معناها جيداً، ذلك المثل الذي ينصحنا بأن نعطي العيش لخبازه... حتى ولو أكل نصفه!
والعيش لمن لا يعرف، هو الخبز عند المصريين، فالرغيف عند كل مصري اسمه رغيف العيش، لا رغيف الخبز، والمائدة المصرية التي تخلو من العيش، أياً كانت أنواع الطعام وصنوفه عليها، ليست مائدة!
والسؤال الذي شغلني كثيراً هو: لماذا كانت هذه النصيحة، من الذين سبقونا، ولماذا جاءت صيغة النصيحة على نحو ما جاءت عليه؟!
علينا أن نلاحظ هنا شيئين أساسيين؛ أولهما أن (الخباز) المقصود في هذا المثل الشائع، ليس أي خباز والسلام، لأنه من الطبيعي أن يكون الخباز، دون غيره، هو صانع العيش، وإلا، فهل من المتصور مثلاً، أن نعطي العيش للنجار، أو للحداد، ليصنعه؟!... فما المقصود إذن بالكلمة هنا؟!... المقصود طبعاً، هو الصانع الذي يجيد صناعته، وبمعنى أدق يتقنها، أياً كان نوع أو اسم هذه الصناعة... ولو شئت هنا أن أضيف شيئاً من جانبي في هذا السياق، لكان هذا الشيء هو وضع فعل (يتقنها) هذا بين مائة قوس وقوس، أو بين مائة هلال وهلال، لعلنا ننتبه إلى أن الهدف من وراء هذا المثل الشعبي، ليس صناعة العيش فقط في حدودها، ولكن الهدف هو أي صناعة أخرى قائمة بيننا في حياتنا!
الخباز في المثل الشعبي الشائع هو مجرد رمز لمعنى أكبر وأشمل، وليس الخباز فيه إلا مدخلاً إلى قضية أعم، تتصل بمستوى الأداء العام في حياتنا!
الهدف، إذا ما حلقنا بعيداً عن المثل في حدوده، هو أن تذهب، حين تذهب، إلى الشخص الذي يتقن ما يفعله، أياً كان ما يفعله، لا إلى أحد سواه.
وأما الشيء الثاني الذي علينا أن نلاحظه، فهو أن الوعي الجمعي صانع هذا المثل العجيب، لم يجد أي عيب في أن يأكل الخباز نصف العيش الذي يخبزه، بشرط واحد، بل شرط وحيد، هو أن يصنعه كما قال ويقول الكتاب في هذا الباب!
ولا بد أن الوعي الشعبي الجمعي، كان وهو يصوغ المثل موضع الكلام في هذه السطور، على دراية تامة بمعنى ما يقول، لأن لك أن تتخيل مثلاً، عشرة أرغفة لا تؤكل، لأنها رديئة الصنع، في مقابل خمسة من النوع الذي يؤكل، ويجد آكلوها فيها متعة، وفائدة... أيها سوف تختار إذا خيروك بين هذه، وبين تلك؟!... ستختار الخمسة طبعاً، حتى ولو كنت تعرف وأنت تختارها، أن الخباز قد أكل مثلها بالتمام!... أو بمعنى أوضح، فإن هذا بالضبط هو الاختيار الذي ينصحك به سابقونا، عن خبرة مستقرة، وعن تجربة ممتدة في الحياة بوجه عام!
القضية التي لا يجب أبداً أن نمل من الإشارة إليها هي الإتقان، كأساس لا يمكن لأي عمل مكتمل أن يقوم على سواه، وسوف يكون علينا هنا كذلك، أن نلاحظ شيئاً بسيطاً جداً، يفصل بين العمل المتقن، والعمل غير المتقن، هو أن الذي أدى في الحالة الثانية لو مضى في أدائه خطوة واحدة في اتجاه الإتقان لتساوى مع زميله في الحالة الأولى... خطوة واحدة من العمل بضمير لا غير... بل سيدهشك أن تكتشف أن الفترة الزمنية التي يستغرقها العمل ذاته في الحالتين واحدة، أو تكاد تكون واحدة، ولكن الفارق المهم، بل الأهم، أن أحداً منا قد أتقن ما يعمل بجد، بحيث يخرج من بين يديه على ما يجب أن يكون عليه فعلاً، دون نقصان، وأن أحداً آخر، منا أيضاً، قد فرغ من عمله سريعاً، ودون أن يعبأ بمدى الجودة المفترضة فيه!... وليس أصدق من الإخوة في الشام الذين يصفون العمل من هذا النوع الأخير، بأن صاحبه قد قام به بقفا يده!
وكان رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، قد نبهنا منذ وقت مبكر، ومراراً، إلى أن الله تعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه. فقط أن يتقنه ولا شيء آخر أشار إليه نبي الإسلام، حين حدثنا عما تحبه السماء في أي عمل يكون علينا أن نؤديه!
نحفظ نحن هذا الحديث الشريف عن الرسول الكريم، ونظل نردده في كل مناسبة تقتضيه، حتى إذا جئنا لنعمل نسيناه في غالبيتنا، ونسينا بالأحرى معناه!
ومما يؤسف له حقاً، أنك إذا قارنت بين عمل عام، أو حتى خاص، يؤديه كثيرون منا في بلاد العرب والإسلام، وبين عمل آخر مماثل، يؤديه أصحابه في بلاد الغرب بوجه عام، سيحزنك أن تتبين بسهولة، أن الثاني أكثر إتقاناً، وأنه يأتي على الإتقان كله، بما لا يدع مساحة ذات قيمة لأي مقارنة لصالحنا، وسوف تجد أن الأول في حالته قد خلا من الجودة، أو كاد يخلو منها، وكأن رسول الإسلام كان يوجه حديثه، حين وجهه، إليهم هُم، لا إلينا نحن في أرض العرب والإسلام!
فما القصة؟!... القصة أننا مدعوون بجد، ومن جديد، إلى أن نتقن ما نفعله، وألا نقبل تفريطاً في ذلك، أياً كان ما نفعله، لا لشيء، إلا لأن الإتقان هو الشيء الوحيد الذي يفرق بين العمل، وبين اللاعمل. فلا يليق بنا أن يكون هذا المثل الشعبي في موروثنا، وأن يكون الحديث النبوي المشار إليه، قاسماً مشتركاً أعظم في الكلام بين بعضنا، ثم لا يخلو عملنا من شيء، في أغلبه، كما يخلو من الإتقان... لا يليق!

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ولو أكل نصفه ولو أكل نصفه



GMT 19:57 2025 الخميس ,20 شباط / فبراير

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 19:29 2025 الأربعاء ,05 شباط / فبراير

الكتب الأكثر مبيعًا

GMT 11:46 2025 الأحد ,26 كانون الثاني / يناير

الرئيس السيسى والتعليم!

GMT 19:13 2025 الثلاثاء ,21 كانون الثاني / يناير

أصالة ودريد فى «جوى أورد»!

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon