الاقتصاد لا يتكلّم إلا سياسة

الاقتصاد لا يتكلّم إلا سياسة

الاقتصاد لا يتكلّم إلا سياسة

 لبنان اليوم -

الاقتصاد لا يتكلّم إلا سياسة

بقلم: سليمان جودة

من المصادفات ذات المعنى أن تنعقد قمة «بريكس 2025» في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، ففيها كانت الولادة الأولى لرقصة السامبا الشهيرة.

ورغم أن هذه الرقصة موجودة في أكثر من بلد، فإن البرازيل تظل أبرز بلادها، بل إن هناك مَنْ يقول إن السامبا كانت عنواناً للمدينة وقت أن كانت عاصمة للدولة البرازيلية، أو في وقت كانت فيه البرازيل أقرب للإمبراطورية منها الى الدولة.

وحين تطالع شيئاً في تاريخ الرقصة منذ أن نشأت في جذورها الأفريقية، تكتشف أن خيطاً من الخيوط يمتد ليصل بين ما يميزها بوصفها رقصة من ناحية، وما يميز الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا من الناحية الأخرى وهو يستقبل ضيوف القمة في بلاده، ثم وهو يقف فيهم، وفي العالم من ورائهم، خطيباً يضع النقاط على حروفها.

الخيط الخفي الممتد هو البساطة في التعبير عن الفكرة لدى الرئيس، ثم البساطة نفسها في تعبير الرقصة عن مضمونها، ففي السامبا يقال دائماً إنها ترتكز على التناغمات البسيطة، وفي مسار الرئيس سيلفا تجد البساطة قاسماً مشتركاً أعظم بين حياته قبل أن يصل إلى القصر، وبين ما وقف يقوله أمام ضيوف القمة في تجمع «بريكس» لعل العالم يسمعه، ثم يسعفه من بعد أن يسمعه.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تتمتع بلاده بكونها واحداً من الأركان الأربعة التي قام عليها «البريكس»، كان قد لاحظ أن الولايات المتحدة الأميركية قلقة من التجمع، ومن توجهاته الاقتصادية بالذات، فسارع يقول إن تجمعاً كهذا ليس ضد بلاد العم سام في شيء. وكان الرئيس الصيني شي جينبينغ، قد بادر إلى قول الشيء نفسه، وكلاهما لم يحضر القمة في البرازيل، ولكنهما أحسّا بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتطلّع الى القمة في مكان انعقادها بالكثير من التحفز، بل إلى التجمع نفسه بالكثير من الشك منذ أن استقر في البيت الأبيض أول السنة.

ولعلنا نذكر أن ساكن البيت الأبيض لم ينتظر أن تنعقد قمة «البريكس» في موعدها ليكشف عمّا يحمله لها وللدول التي تتبنّى سياساتها من مشاعر غاضبة، ففي بدايات مجيئه إلى مكتبه أبدى مشاعره علانية، وعَدّ أن الدول التي تأخذ بسياسات هذا التجمع الاقتصادي سوف تكون على خصومة سياسية مع بلاده، وسوف تتصرف بلاده معها بالطريقة التي تراها، وسوف تكون هذه الطريقة موجعة على المستوى الاقتصادي لكل بلد يتصور أنه يمكن أن ينال من مكانة الدولار بين العملات.

ولكن دا سيلفا كان مختلفاً عندما أراد أن يقول المعنى ذاته الذي قال به الرئيسان الصيني والروسي، وكان فيما قاله يأخذ من بساطة السامبا في التعبير عن نفسها، تماماً كما عاشها هو في صباه، وفي شبابه، وفيما بعد صباه وشبابه. ما قاله على سبيل المثال إن «البريكس» إذا كان في أصله تجمعاً اقتصادياً، فهو بهذه الصفة يمكن أن يساعد في قيام واقع جديد متعدد الأقطاب.

لاحظ بساطة العبارة في التعبير عن الفكرة، فـ«البريكس» لم يستطع بعد التأسيس لمثل هذا الواقع، رغم أنه يضم أكثر من نصف سكان العالم، ونحو 40 في المائة من اقتصاد العالم نفسه، هذه واحدة. والثانية أنه لا يستطيع القيام بهذه المهمة وحده، ولكنه يمكنه المساعدة في الوصول إلى تحقيقها، والثالثة أن الواقع الجديد متعدد الأقطاب، لا يرغب عند قيامه في الاصطدام بالقطب الكبير القائم والمتمثل في الولايات المتحدة ولا يلغيه، لأن قيام قطب إلى جوار قطب آخر بالمعنى الاقتصادي، لا يعني بالضرورة أن يُهدد القطب الناشئ القطب الماثل، وإنما يهدف إلى إتاحة الفرصة أمام درجة من التوازن تُهدئ من حدة ما يعيشه العالم منذ أن انفرد به قطب واحد.

وربما لهذا السبب ذهب دا سيلفا إلى تشبيه تجمع «البريكس» بتجمع آخر كان اسمه «عدم الانحياز»، وكان يقوم وقت الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي، وكان أساسه أن يُخفف مما كانت الحرب الباردة تسببه من توترات واستقطابات.

ولكن حتى خطاب التهدئة الذي يتبناه ويردده زعماء «البريكس» لن يفلح في الغالب في تهدئة مخاوف الولايات المتحدة، ولا في تبديد هواجس ترمب، فالواضح أن الأميركيين، خصوصاً في ظل ترمب، لا يرضون بالهيمنة بديلاً، ولا يُمارسون من السياسات ما يمكن أن يُطمئن بقية سكان الكوكب، ولا يقدمون للعالم ما لا بد أن تقدمه القوة الأكبر من حلول في الحروب والنزاعات.

على الجانب الآخر تجدُ الدولتين الأكبر في تجمع «البريكس» زاهدتين في الحضور السياسي خارج حدودهما، وإذا شئت فراجع حضور الصين وروسيا في الحرب على قطاع غزة التي تكاد تدخل عامها الثاني، أو في الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي بدأت بإشارة أميركية خضراء إلى تل أبيب، وتوقفت بإشارة مماثلة من الرئيس الأميركي.

قيمة الاقتصاد الأميركي الأول بين اقتصادات العالم أنه يوظف قوته في ملعب السياسة العالمي، ولكن الاقتصاد الصيني يغيب في المقابل عن الملعب ذاته، رغم أنه الاقتصاد الثاني على نحو مباشر، ولا يمكن لـ«البريكس» أن يكون قطباً بين أقطاب ما لم تظهر لاقتصاداته تجلياتها السياسية في حرب القطاع، وفي غير حرب القطاع.

العالم في أشد الحاجة إلى أن يتوازن في حركته، ولا يمكنه التوازن إلا إذا كفّت القوة الأكبر فيه عن التغول والتوغل، وهي لن تكف إلا إذا بادرت القوة الوازنة مثل «البريكس» إلى الحضور السياسي الذي يتكئ على الاقتصاد ليتكلم سياسة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاقتصاد لا يتكلّم إلا سياسة الاقتصاد لا يتكلّم إلا سياسة



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon