انفجار المرفأ

تستعدّ انتفاضة 17 تشرين في لبنان لإعادة الوهج إلى صفوفها وذلك في سنويتها الأولى، بعيدا من كل ما أحاطها من تباينات، ورغم كل الظروف السياسية والاقتصادية والصحية المحيطة في لبنان فإن الصورة القاتمة التي تنتظر هذا البلد في قابل الأيام تثير غضب الشعب الجائع، الذي يضيق به الخناق يوماً بعد يوم ويلتف الجوع حول عنقه، فهل من جديد تحضّر له الانتفاضة التي أُصيبت بانتكاسات عدة؟

تتوالى الدعوات في معظم المناطق اللّبنانية على مواقع التواصل الاجتماعي، للنزول إلى الشارع في الساعة السادسة مساء، موعد انطلاق شرارة الثورة، وتحديدا في عروستها طرابلس، والزوق وجل الديب وساحة الشهداء وساحة صيدا وحتّى في عاليه والبقاع.

وتنطلق الدعوات الى تظاهرة مركزية، تنطلق عند الثالثة والنصف من ساحة الشهداء، تحت شعار «الثورة مكملة لتقضي على منظومة العار»، حاملة شعلة الثورة في إتجاه «الرينغ»، ومن ثمّ مصرف لبنان، وزارة الداخلية، فمجلس النواب، ثمّ المرفأ، نقطة إلتقاء مجموعات الثورة عند الساعة الـ 6:30.
وتتجّه المجموعات بعدها إلى جلّ الديب، حيث سيتمّ رفع الستار عن لوحة تذكارية للثورة، عند الساعة التاسعة الاّ ثلث. حيث وجّه ثوار المتن الدعوة للتجمّع على جسر جل الديب عند الساعة السابعة والنصف مساء.

ويشرح الناشط شربل قاعي، وهو من ثوار المتن، دوافع ثورة 17 تشرين، والتي وصفها بأنّها «بداية وطن»، متحدثاً عن جملة مطالب تعود بهم الثورة إلى الشارع، تحاكي من خلالها الأزمات التي طرأت هذه السنة وأبرزها: استقلالية القضاء، انتخابات نيابية مبكّرة، استعادة الأموال المنهوبة، حكومة اختصاصيين مستقلين، تحقيق شفاف في انفجار المرفأ، تحرير ودائع المواطنين في المصارف.

ويؤكّد القاعي: «اليوم وفي ظلّ الفقر المدقع والجوع وانقطاع الدواء والبنزين باتت العودة إلى الشارع ضرورة، فالثورة بلا ناس لا تقوم»، معتبرا «أننا نخسر وطناً وليس أرضاً»، وقال: «ثورتنا سلمية، وليست ثورة دم، لأنّنا لا نريد أن نخسر مزيداً من خيرة الشباب، إنما هدفنا هو بناء وطن، لذلك ندعو دائما إلى ثورة سلمية حضارية».

ويختم القاعي: "إنّ رواتبنا لم تعد تكفينا، والتضخمّ والوضع الاقتصادي المتردي لم يكونا يوماً من مسؤولية المواطن، إنما الطبقة سياسية التي لا تزال تحكم لبنان منذ ثلاثين سنة، سرقت البلد، واليوم يتمسكون بالسلطة لحماية أنفسهم».
ولكن، لماذا فقد المواطنون حماسة النزول الى الشارع، وهل خذلتهم الثورة أم أنّ هناك عوامل أخرى حالت دون ذلك؟

يوضح الناشط روي كيروز أنّ «عوامل عدّة لعبة دورها وساهمت في خروج الناس من الشارع، وأبرزها السلطة التي أرهبت الناس ووضعت القوى الأمنية في مواجهتهم، إضافة إلى الإعتقالات، إذ لدينا أكثر من 2300 معتقل، كذلك لعبت الأحزاب بمناصريها وأموالها دوراً سلبياً دفع بالناس إلى إعادة تموضع بعيداً عن الثورة»، وقال: «جميعهم يسعى الى قتل الروح الثورية، فنحن نحارب دولة بنظام سياسي وأمني وقضائي وحزب مسلّح، ورغم ذلك ومع تفشّي جائحة كورونا والاعتقالات والجرحى والشهداء، الثورة ما زالت مستمرة».

ويعكس كيروز حماسة الشباب اللّبناني للتغيير، ويقول، انّ «التحرّكات اليوم ستكون لامركزية عفوية، فمجموعات الثورة في جهوزية كاملة للعودة إلى الشارع والتفاعل يبدو قوياً»، وفي النهاية، يرى كيروز أنّه «مهما كان المشهد اليوم، فهذا مؤشر للسلطة أننا لم ولن نستسلم».

ولأنطوني دويهي رأي آخر، ففي السياسة يعطي الناس حقهم في عدم النزول الى الشارع، ويؤكّد «انّهم كمجموعات للثورة لم يتمكنوا من بلورة طرح سياسي اجتماعي مالي اقتصادي يجذب الرأي العام»، ويشير إلى «الثورة المضادة» التي شنتها السلطة وأثّرت سلباً على ثورتهم.

ويكشف الدويهي، «أنّ الثورة اليوم أعدّت العدّة والخطط البديلة، وهي في صدد إنشاء أحزاب سياسية جديدة، من المجموعات المنضوية تحت لوائها، وبالإضافة إلى ذلك، فقد تمكّنت نحو 18 مجموعة أساسية من إعداد ورقة سياسية مشتركة تتضمّن برنامج حلّ سياسي اقتصادي اجتماعي مالي متكاملاً، سيُطرح أمام الرأي العام ليقرّر على أساسه من يستحق ثقته».
ومنذ 17 تشرين الأول 2019 ولغاية اليوم، يشهد لبنان انهيارا اقتصاديا مُتسارعاً أدّى إلى زيادة حدّة الانكماش الاقتصادي من 7 في المائة إلى 30 في المئة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في العام 2019 إلى 31 مليار دولار في العام 2020، وارتفع معدل التضخّم في مؤشر أسعار المستهلك إلى 91.3 في المائة مقارنة مع 2.9 في المائة في 2019.

واستُنِزف احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية بالكامل بسبب مواصلة سياسة دعم استيراد السلع الأساسية على سعر الصرف الرسمي، ما أدّى إلى تراجع أصول البنك المركزي من العملات الاجنبية الى حدود الاحتياطي الإلزامي للمصارف عن 17.5 مليار دولار مقارنة مع 30 مليار دولار في 2019. وارتفعت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الاجمالي الى 181 في المئة في 2020 مقارنة مع 177 في المائة في 2019، وذلك ليس بسبب استدامة الدين العام بل نتيجة تخلّف لبنان عن سداد ديونه الخارجية في آذار 2020 وتوقفه عن دفع سندات اليوروبوندز.

الانهيار الأبرز والأهم الذي نتج عن انفجار الأزمة، كان تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار بنسبة فاقت الـ 70 في المائة، ليصل في بعض الفترات الى حدود الـ10 آلاف ليرة مقابل الدولار ويتراجع الى حوالى 8000 ليرة حالياً، في حين ارتفع معدل التضخم السنوي الى مستويات قياسية عند 450 في المئة، ووضع لبنان في المرتبة الثانية عالمياً بعد فنزويلا.

في النتيجة، انهارت القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، وتضاعفت نسبة الفقراء لتصل إلى 55 في المئة في العام 2020 مقارنة مع 28 في المائة العام 2019، وارتفعت نسبة الذين يعانون الفقر المدقِع ثلاثة أضعاف، من 8 إلى 23 في المائة.

وفي ظل الإبقاء على سعر الصرف الرسمي عند 1507 ليرة مقابل الدولار في القطاع المصرفي، أدّى الوضع المالي والنقدي المُزري إلى وجود أسعار صرف مختلفة في السوق بالإضافة إلى السعر الرسمي، وهي: سعر المنصة التي يحدده مصرف لبنان عند 3900 ليرة، سعر السوق السوداء عند 8000 ليرة حالياً، سعر شراء شيكات الدولار عند 3000 ليرة.

كما بات هناك قيد التداول في السوق 4 عملات، هي: الدولار الحقيقي النقدي fresh dollar، الدولار الوهمي المُحتجز في المصارف (lollar)، الليرة الحقيقية النقدية، والليرة المحتجزة في المصارف (Bira/bank lira) والمستحدثة مؤخراً بعد ان قيّد مصرف لبنان السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية ووضع سقوفاً لسحوبات المصارف النقدية بالليرة من المصرف المركزي.

ورغم تأكيد البنك المركزي على أنّ هذا النوع من التدابير هو بطبيعته إجراء موقّت تفرضه أوضاع استثنائية، وتلجأ اليه المصارف المركزية في العالم لمكافحة التضخّم والارتفاع المفرط في أسعار السلع والخدمات، من دون التقصير في تلبية مجمل حاجات السوق المحلي الى السيولة، إلّا انّ شح السيولة بالليرة في السوق في ظلّ شح السيولة بالدولار أيضاً وارتفاع الطلب عليه سيؤدي الى مزيد من الانكماش الاقتصادي لأنه سيعطّل الدورة الاقتصادية ويقلّص الاستيراد بنسبة اكبر من التي بلغها عند 50 في المئة مقارنة بالعام الماضي، وفي النتيجة سيخفّض من حجم الاستهلاك.

ووصف وزير الاقتصاد السابق سامي حداد الإجراء الذي اتخذه مصرف لبنان، عبر تقييد السحوبات النقدية، بـ«التعيس جدّاً والقصير الأجل»، لافتا إلى أنّ الهدف منه هو الحفاظ على سعر صرف الليرة مقابل الدولار بصورة اصطناعية. وأوضح أنه سينتج عن هذا الإجراء مزيد من التدهور في النشاط الاقتصادي، «وبدلاً من تحفيز الاقتصاد وتنشيطه، فإنّ تقييد السحوبات بالليرة سيؤدّي الى مزيد من الانكماش»، معتبراً انّ هذه الإجراءات بعيدة جداً من أفق الحلّ المتمثّل بتَدفّق مليارات الدولارات إلى لبنان وذلك من خلال التوصّل إلى اتفاق على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي.

وأكد الخبير المالي وليد أبو سليمان انّ الهدف من تقييد السحوبات النقدية بالليرة هو لجم الاستهلاك المحلي، وتقليص حجم الاستيراد، ومنع خروج المزيد من الدولارات إلى الخارج، والحفاظ على ما تبقى من احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية لفترة اكبر، موضحاً انّ تقييد السحوبات بالليرة جاء بالتوازي مع طلب مصرف لبنان من مستوردي السلع المدعومة تسديد قيمة فواتير الاستيراد بالليرة نقداً، ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى شح في المواد الاستهلاكية وفقدان السلع من السوق بشكل أكبر من الحاصل اليوم، وإلى مزيد من الانكماش الاقتصادي.

وأشار أبو سليمان إلى أنه نتيجة ذلك، سيصبح هناك ليرات مكّدسة في المصارف وfresh ليرة، «بدأ بيع وشراء الشيكات المصرفية بالليرة مقابل ليرة نقدية بسعر يتراوح بين 10 إلى 15 في المائة من قيمتها الفعلية»، وأكد أنّ دولارات المنازل ستبقى مخزّنة ولن يتم استخدامها، بغضّ النظر عن أي سقوف يتمّ تحديدها للسحوبات النقدية بالليرة.

قد يهمك أيضا : 

  مستجدات تظهر في التحقيق في انفجار مرفأ بيروت

وزيرة العدل اللبنانية تلتقي أهالي الضحايا في انفجار "مرفأ بيروت"