الحوار الغائب

الحوار الغائب

الحوار الغائب

 لبنان اليوم -

الحوار الغائب

مصطفي الفقي

الأصل فى الحياة منذ نشأتها أنها حوار مستمر وليست بالضرورة صراعًا دائمًا كما نظن، آخذين فى الاعتبار أن الصراع ذاته هو نوع من الحوار بالسلاح أحيانًا والتآمر أحيانًا أخرى، ولكنه يبقى فى النهاية حوارًا بين طرفين سواءً كان الحوار صدامًا بالقوات المسلحة أو مفاوضات بالجهاز الدبلوماسى. إن الكون فى النهاية يقوم على منطق «الديالوج» لا أسلوب «المونولوج»، ألم يقُل «المناطقة» إن الفكر الإنسانى هو حصيلة المواجهة بين الأضداد لتوليد الأفكار الجديدة والرؤى المختلفة، وينسحب الأمر أيضًا على الحياة السياسية فى الداخل، فهى جدل مستمر وصراع دائم وحوار لا يتوقف، ولكننى لاحظت فى السنوات الأخيرة أننا أحيانًا نلجأ إلى حوار من طرف واحد، وهو ما نطلق عليه مجازًا «حوار الطرشان»، والحوار له أصول مرعية وقواعد راسخة وتقاليد موروثة، كما أن للحوار آدابه وضوابطه، وقد افتقدنا فى السنوات الأخيرة كل هذه الخصائص لأسباب تتصل بتراجع النظام التعليمى وخفوت دور المؤثرات الثقافية وشطط الإعلام بكل أنواعه المقروءة والمسموعة والمرئية، لذلك فإن الأمر لا يبدو بالسهولة التى نتخيلها، فالفروق الثقافية واسعة بين الحضارات المختلفة كما أنها تعتمد على طبيعة السلوك الإنسانى الذى يختلف من ثقافة إلى أخرى، ولكن الأمر فى ظنى يبدأ من التعليم وأهميته وتأثيره فى الأجيال الجديدة، ولقد لاحظت دائمًا أن طلاب وخريجى الجامعات الأجنبية يمتلكون أدوات الحوار، لأنهم تعودوا عليه، بينما نرى معظم خريجى الجامعات المصرية لا يقدرون على ذلك، لأنهم لم يتعودوا عليه وعاشوا فى ظل ثقافة التلقين والإملاءات المكررة، ولعلى أطرح الآن الملاحظات التالية:

أولًا: إن الأسرة مسؤولة من البداية عن تحديد ملامح التكوين النفسى لأبنائها وبناتها، فالقمع والقهر والتخويف لا تصنع مُحاورًا، كما أن منطق الأبوية القائمة على الوصاية الدائمة لا يصنع محاورًا بل يقتل فى الإنسان كل خصائص الفكر الحر والانفتاح على الآخر وشجاعة إبداء الرأى، فالطفل الذى جرى كبت آرائه بحرمانه من أساليب الحوار المختلفة مع الأب والأم والإخوة والأخوات سوف ينطلق من محيط تلك الأسرة محبطًا مرتعش الفكر مضطرب الوجدان، ولن تستقيم له قدرات واضحة على اقتحام المشكلات والحوار فى ندية مطلوبة للوصول إلى الرأى الصحيح دون قمع أو كبت أو طغيان.

ثانيًا: إن الثقافة الدينية مسؤولة هى الأخرى عن تكوين نفسية الفرد وتحديد ملامح شخصيته، فالدين مكون رئيس فى شخصية الفرد والوصول إلى أعماق النفس البشرية، فـ«الإسلام» جعل التفكير فريضة إسلامية، و«المسيحية» تزرع المحبة بديلًا للصراع (أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم). بينما كانت «اليهودية» معتمدة على قدر من التشدد الذى يصل إلى حد التزمت، وليس ذلك التعميم صحيحًا فى مجمله؛ إذ إن هناك استثناءات كثيرة للخروج عن هذا التفكير النمطى ولكن الاستثناء فى النهاية يؤكد القاعدة، والحياة بطبيعتها تقوم على التعددية والتنويع والتغيير، ولا توجد فيها قواعد جامدة ولا حقائق مطلقة.

ثالثًا: إن «القرية الكونية الواحدة» التى هى عالمنا المعاصر أصبحت بوتقة تنصهر فيها الثقافات والحضارات والقوميات، وأضحى الحوار بالتالى أمرًا لازمًا فى ظل تقدم وسائل الاتصال وتوفير الخدمات «اللوجستية» وازدهار تكنولوجيا المعلومات، ولم تعد هناك حواجز مانعة فى ظل فكر العولمة التى بشر بها «الغرب» منذ عدة عقود، حتى نظرية «صراع الحضارات» أيضًا تأخذ طريقها ـ فى النهاية ـ إلى حوار بين الحضارات حتى ولو سبقه صدام طويل، وقد يتساءل البعض وماذا عن «الإرهاب»؟ هل يمكن الحوار مع إرهابى يحمل السلاح ويقتل الناس ويروع البشر؟ إنه سؤال هام فى ظرف خاص يمر به العالم عمومًا والمنطقة العربية الإسلامية خصوصًا، إذ لا يمكن أن يكون الحوار بالكلمات مع من يكون الرصاص والدماء والأشلاء هى لغة حواره الوحيدة، إنها معادلة صعبة تواجهها مجتمعات معاصرة وهى تقاوم «الإرهاب» وتكافح العنف وتدعو إلى الحوار الذى يشترط الوقوف على أرض وطنية حقيقية.

رابعًا: لقد أثبتت تجارب التاريخ وبرهنت كافة الصراعات الإقليمية والدولية على أن «مائدة المفاوضات» هى النهاية الطبيعية لكل أنواع الصدام والمواجهة مهما كانت الظروف والملابسات، وما أكثر الصراعات الدولية الدامية التى لم نكُن نتوقع أن يجلس أطرافها على مائدة واحدة للحوار والتفاوض ولكن تحقق ذلك فى النهاية، ولعل الصراع العربى الإسرائيلى والخطوة التاريخية الضخمة ــ بما لها وما عليها ــ التى اتخذها الرئيس الراحل «أنور السادات» عام 1977 هى تأكيد لهذا المعنى، ويجب أخذها فى سياق الحوار الحتمى بعد شلالات الدم وبارود المعارك وقطيعة السنين، لذلك فإن الأمر فى النهاية محكوم عليه بالحوار مهما اختلفت موازين القوى وتباينت ردود الأفعال.

إن الحوار هو لغة العصر بل كل عصر، فالحوار نوع من تراشق الأفكار حتى ولو حدث ذلك بعد تراشق السلاح فى ميادين القتال، ولن تتقدم الأمة المصرية إلا إذا وعينا الدرس وتعلمنا أن الحوار هو لغة الحضارة وسلوك الثقافة والتنوير، فضلًا عن أنه نتاج طبيعى لنظام تعليمى عصرى حديث يدرك به الشباب كيف يحترم خيارات الآخر ويسعى للحوار مع محيطه الإنسانى فى كل زمان!.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحوار الغائب الحوار الغائب



GMT 22:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

سنوات الهباء

GMT 21:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

حضرموت ومنطق الدولة

GMT 20:52 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

عن هجاء «النظام الطائفي» في لبنان

GMT 20:51 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

الغرب يعالج مشاكله... على حساب الآخرين!

GMT 20:50 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

المشهد البريطاني تحت قبضة «الإصلاح»

GMT 20:49 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

أفكار حول التطوّر التقني وحيرة الإنسان

GMT 20:48 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

بدور نسجت تاريخها

GMT 20:45 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

على وزن المطار السري

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 00:46 2016 الخميس ,25 آب / أغسطس

وصفة طبيعية لتحصلي على أكواع بيضاء

GMT 22:53 2017 الجمعة ,21 تموز / يوليو

الشهري يستقيل من تدريب فريق النهضة السعودي

GMT 22:47 2019 الأحد ,19 أيار / مايو

جورج قرداحى يسلم جائزة "اسم من مصر" للفائز

GMT 07:07 2013 الجمعة ,23 آب / أغسطس

كارول سماحة تنتهي من تصوير "وحشاني بلدي"

GMT 15:56 2022 السبت ,22 كانون الثاني / يناير

الموضة الرائجة للبلوزات خلال موسم ربيع وصيف 2022

GMT 10:56 2020 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

وزير مصري سابق يؤكّد أنّ أعراض "كورونا" تختلف بحسب الطقس

GMT 10:35 2015 الثلاثاء ,29 أيلول / سبتمبر

مقتل شخصين وإصابة 300 في إعصار عنيف ضرب تايوان
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon