مات متسربلاً بالضوء الفدائي

مات متسربلاً بالضوء الفدائي

مات متسربلاً بالضوء الفدائي

 لبنان اليوم -

مات متسربلاً بالضوء الفدائي

بقلم : حسن البطل

أبو علي الجعبة، ليس نصاً وليس صورة.. لكنني، إذ التقيه هكذا.. مرات مبعثرة في مساءات حميمة لا تُنسى، أقرأه نصاً ناصعاً في نور النهار الطبيعي الواضح.

أعرفه ـ لا أعرفه؛ يعرفني ـ لا يعرفني، غير أن هذا القادم إلى الغروب من وهج انفجار الخلايا الفدائية الأولى، يذكّرني بصور واقعية ـ مستعادة، بفضل عيون «المرصد هابل»، عن ضوء الشظايا الأولى لخليقة الكون.
الكون الذي تشكل لا يزال يتشكل، والحركة الفدائية التي تشكلت لا تزال تتشكل.. غير أن معظم الفدائيين الأوائل من جيل أبو علي، الذين تشكلوا، مع انفجار الربيع الفدائي، توقفوا عن إعادة التشكل.
أبو علي الجعبة استثناء ما. لم يتوقف عن التشكل. بقي يرى الأفق الغربي واضحاً في ضوء الشروق الفدائي. الرجل الكهل ليس نصاً وليس صورة، لكن أبو علي ـ الجعبة ظل حالة خاصة: عندما وصل الصعود الفدائي إلى ذروة ألقه صعد معه.. وعندما بدأ هذا الصعود امتحان الوضوح السياسي.. انسحب أبو علي من القواعد الفدائية إلى غبار السجال السياسي.
لا أستطيع أن أكتب أبو علي الجعبة لزوجته، ولا لأم ولديه، ولا لإخوانه الكثر، ولا، خاصة، لـ «عموم آل الجعبة في الوطن والخارج»، لكنني أكتبه لنفسي، أو لجيلي، أو لمن تبقى من رفاقه. كان يذوي.. وكان يستحضر وهج الفدائيين الأوائل.
إنه لا ينسى الرفاق الأوائل، ولا هم ينسونه، ولا أنا أنساهم، لأنهم خريجو «بوتقة المرحلة». مرحلة البدايات الفدائية الأولى. بعض من بقي من رفاقه صاروا يؤرخون لتلك البدايات، ولمساراتها المتشعبة. لقد نضجوا. هل أنضج أو أذوي؟ لا أعرف.
هو كان مأخوذاً بالضوء الفدائي الأول، أو بالشباب الذين احترقوا فيه، أو بالفدائيين الطيبين الشجعان الذين ابتعدوا أو أبعدوا إلى الظلال، بل إلى النسيان. هو لا ينساهم. طوبى لمن سقط منهم مثل نيزك متوهج.
في المساءات المبعثرة، قبل أن يبدأ اختلال الخلايا في جسمه، كان يبدو لي ناصعاً، كأنه جزء من ضوء النهار الطبيعي.. لكن، آخر مرة رأيته في ضوء النهار الطبيعي، بدا لي مثل صورة في مرآة يجللها بخار كثيف. دخل مرحلة الغياب.
أطلت هنرييت عليّ في مكتبي. خرجتُ معها. لا طاقة له على فك حزام الأمان في سيارة واقفة. هذه أول مرة وآخر مرة نتعانق فيها.. عناقاً رقيقاً رفيقاً يلائم جسداً نحيلاً، ذاوياً هشاً.
في يده دفتر «نوطات» صغير ومسطر. صفحة صغيرة مقسومة نصفين: النصف لأخيار الفدائيين الأوائل، والنصف الآخر لأشرار قادة الفصائل. كانت هذه «قائمة أبو علي» التي يشتغل عليها، بالعربية، بعد أن اشتغل عليها بالفرنسية.
إنه رفيق أخي، ورفيق رفاقه الأوائل، وأخي في «قائمة الأخيار»، والقائمة تحتاج تاريخ الميلاد باليوم والشهر، وأنا أجهل اليوم والشهر وأتذكر العام، ويوم وشهر وعام سقوطه. فقط في نعي أبو علي ـ الجعبة عرفت الاسم الرباعي الكامل: حسن محمد عاشور الجعبة.
أعطيته ما كتبته في عمود عن «أبو مشهور». قلت: ماذا سيضيف الأخ من معرفة إلى معرفة رفيق القتال الأول؟ لست أدري. ماذا تضيف معرفة عائلة أبو علي الجعبة له لمعرفة رفاقه الأوائل؟ لست أدري.
تحيرني، عميقاً، عقليات وروحانيات وسلوكيات الذين يصلون حافة الهزيمة في صراعهم مع مرض السرطان. في احتضارهم يتألقون في استحضار التجارب الأولى. الرجال الأوائل. الأفكار الأولى. البدايات الأولى. بقي القليل من جيل أبو علي.
نحن بقايا جيل أبو علي الفدائي تأخذنا رؤية الأفق الشرقي في الشروق، والأفق الغربي في الغروب. كيف انمسخت الفكرة النقية في قواعد الفدائيين إلى مؤسسات فاسدة. هو كان مأخوذا برؤية الأفق الغربي في ضوء الشروق، ورؤية عروق الفساد في معادن الرجال. رجال أخيار بررة لأفكار خيرة. ورجال أشرار لأفكار ومؤسسات فاسدة.
أحسّ أبو علي ـ الجعبة أنني لا أوافقه الرأي تماماً على قائمته. لا بأس، فهناك قلة من أحياء ذلك الجيل توافقني الرأي على ما أكتب في المرحلة وعن المرحلة.
رأيته وكان مسكوناً بالسكينة، وكنت في حضرته الأخيرة مسكوناً بتململ الشكوك القديمة. بعد كل هذا العمر وهذه التجربة مات أبو علي نقياً، متسربلاً بالضوء الفدائي الطبيعي في نهار طبيعي. غطّ في حلم أبيض عميق. مات.
لا أعرف لماذا أتذكر ما قاله الشقي الجميل مايا كوفسكي: سآتيكم في الغد الشيوعي البعيد.!
وهل يلاقينا أبو علي ـ الجعبة .. في الغد الفلسطيني البعيد؟.!

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مات متسربلاً بالضوء الفدائي مات متسربلاً بالضوء الفدائي



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon