لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش

لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش؟

لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش؟

 لبنان اليوم -

لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش

بقلم:حازم صاغية

من يراجع التاريخ اللبنانيّ الحديث يلاحظ أنّ كلّ واحدة من محطّاته الأساسيّة لازمَها نقاش وسجال كثيران، وبها حفّ ما لا يُحصى من أفكار طُرحت في التداول العامّ.

ففي 1946 مثلاً، وكانت انقضت ثلاث سنوات على الاستقلال، أنشأ ميشال أسمر «الندوة اللبنانيّة» التي فكّرت بعالم ما بعد الاستقلال وبكيفيّة تدبّره. هكذا بلورت «الندوة» أسئلة المرحلة الجديدة كما شكّلت مصفاة الحياة الثقافيّة والفكريّة، فكان لها إسهامها الكبير في صياغة النخبة التي هيمنت في العقود الثلاثة التالية.

فهي كانت زنبراً لأسماء تمتدّ من ميشال شيحا ورينيه حبشي إلى عبد الله العلايلي وكمال الحاج وصبحي محمصاني. وحتّى سياسيّون ككمال جنبلاط وتقيّ الدين الصلح وإدوار حنين، ورجال دين كموسى الصدر وجورج خضر، وإعلاميّون كجورج نقّاش وغسّان تويني، آثروا أن يطلّوا، من خلالها، بوجه ثقافيّ على العالم.

وشيء مشابه رأيناه مع العهد الشهابيّ بعد حرب 1958 الأهليّة المصغّرة، ثمّ مع توقيع «اتّفاق القاهرة» بين الدولة ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة عام 1969، حين أُشبع مبدأ ازدواج «الدولة والثورة» نقاشاً، وبعد ذاك على ضفاف اتّفاق الطائف في 1989، كما إبّان مشروع «سوليدير» لإعادة إعمار بيروت. ففي كلّ واحدة من تلك المحطّات كان المثقّفون اللبنانيّون، الحزبيّون وغير الحزبيّين، يتحوّلون خلايا تساجل وترسم صورة البلد والنظام المحبّذين أو تسجّل ما ينبغي اجتنابه.

والحال أنّ المحطّة التي نعبرها حاليّاً تخلو، على العكس تماماً، من كلّ نقاش وتتكشّف عن فقر مدهش في الأفكار. وهذا علماً بأنّها، وبلا قياس، أشدّ مصيريّة وحساسيّة من كلّ سابقاتها المذكورات.

فهناك اليوم ضجيج تلفزيونيّ متواصل يدور معظمه حول حدث واحد بعينه، وهناك طبعاً ما تزخر به وسائط التواصل الاجتماعيّ من تشهير وشتائم واتّهامات كثيراً ما تتجاوز الفرد المعنيّ إلى طائفته وجماعته، وهي إن لم تفعل هذا مباشرةً فعلته مداورةً.

وأغلب الظنّ أنّ ضمور النقاش يكمن بالضبط في أنّ الطوائف باتت تقدّم نفسها من دون أيّ غطاء أو تحوير أو «خجل» وفق تعبير المؤرّخ أحمد بيضون. فقبلاً كان المسيحيّ المتوسّط، إذا أراد أن يؤكّد تمايزه الطائفيّ أو الدينيّ، ذهب بعيداً في الحديث عن فينيقيا أو المتوسّطيّة أو الفرنكوفونيّة أو عن الغرب الحديث وحضارته، كما كان المسلم المتوسّط، إذا شاء أن يؤكّد تمايزاً مماثلاً، تشدّدَ في إبداء الولاء للقوميّة العربيّة أو الحماسة لتحرير فلسطين أو التذكير بأدوار لعبها العرب والمسلمون في التاريخ...

وبدورها كانت الدولة، عبر أجهزتها الآيديولوجيّة (المدارس، الإعلام الرسميّ...)، تحاول التوفيق بين ما تباعدَ واختلف. وعلى هذا النحو درجت على تدوير الزوايا وتشذيب الأشكال المروّسة والحادّة.

أمّا اليوم فكثيراً ما تراجعت الحاجة إلى ارتداء هذا الزيّ أو ذاك، وباتت الهويّات المتصارعة تتقدّم بأسمائها الصريحة، إذ هي ذاتها آيديولوجيّات ذاتها، وذلك في اكتفاء ذاتيّ لا يُحسد عليه أيٌّ كان.

وفي الغضون هذه خفّ الضغط الذي كانت تمارسه الحداثة ومعاييرها على اللبنانيّين أسوةً بسواهم من الشعوب. فما كان يوصف بالمُعيب أو المتخلّف، كأنْ يُنعت أحدهم بالطائفيّة أو العشائريّة، بات أقرب إلى صفة يعتدّ صاحبها بها، وقد يؤكّد على فضائلها وأصالتها المفترضة، واجداً ما يسوّغ ذلك في أنّ الطرف الآخر لا يقلّ عنه اعتداداً بطائفته أو عشيرته. وبالطبع كان لانكماش الدولة وثقافتها التسوويّة أن أجّج تلك الميول والدوافع، لا سيّما وقد سبقته حرب أهليّة مديدة وفرز وتهجير سكّانيّان واسعان وتراجع في تداخُل المناطق وتواصُلها. وجروح كهذه يتجمّع تحتها قيح كثير.

لكنْ إذا كانت الحداثة تقلّل ما باتت تصفه الجماعات بأنّه «مقدّساتـ»ـها، وتوسّع هامش التعامل النقديّ معها، فإنّ انتكاس الحداثة يضاعف «المقدّسات» ويصعّدها بحيث يغدو نقدها مسّاً بما يُحرّم المساس به. وبالتأكيد فأعلى مراتب هذه الصناعة ربطها بالسلاح الذي «يحمي المقدّسات ويدافع عنها»، ما يجعل أدوات القتل، بلغة الشيخ نعيم قاسم، «روحنا وشرفنا وأرضنا وكرامتنا ومستقبل أطفالنا».

و»المقدّسات» المزعومة مسائل لا تحتمل النقاش لأنّها، تعريفاً، فوق النقاش، ولأنّها بذاتها جوهر لا يتغيّر، بل لا يجوز أن يتغيّر.

وهنا نطلّ على سبب آخر قد يسهم في تفسير نضوب الأفكار الراهن. ذاك أنّ البدايات ومراحل التأسيس هي التي تستفزّ التفكير والنقاش وتستحضرهما، فيما النهايات تفعل العكس تماماً. فهنا تسود «حكمة» مفادها أنّ كلّ شيء سنقوله سبق أن قيل مراراً، وكلّ تجربة قد نجرّبها سبق أن جُرّبت، فما نفع التكرار للمرّة الألف إذاً؟ وحين لا نعود نكترث بالأوطان ولا نعوّل عليها فما نفع السجال في شأنها؟

ويُخشى أن نكون اليوم في قلب النهايات، وهو ما تحضّ على افتراضه ظروف إقليميّة ودوليّة ليست أكثر تمسّكاً بالنقاش والأفكار، ولا أقلّ اعتداداً بالرجوع إلى ما يقال إنّنا خُلقنا عليه أو فُطرنا عليه.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش لماذا كفّ اللبنانيّون عن النقاش



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 22:24 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تتمتع بالنشاط والثقة الكافيين لإكمال مهامك بامتياز

GMT 00:05 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 20:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 08:41 2018 السبت ,15 كانون الأول / ديسمبر

أحمد في ورطة؟

GMT 18:57 2025 الأحد ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات عبايات لصيف 2025 ستجعلك تبدين أصغر سناً

GMT 13:03 2020 الإثنين ,07 كانون الأول / ديسمبر

زاهى حواس يكشف طلب الرئيس السادات عندما زار المتحف المصرى

GMT 14:57 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

حريق داخل بسطة خضار بداخلها غالونات بنزين ومازوت في بعبدا

GMT 23:57 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

5 نصائح تمكنك من الانسجام والتفاهم مع شريك حياتك

GMT 22:53 2021 الإثنين ,08 آذار/ مارس

انا والكورونا و المرأة في يومها العالمي

GMT 16:11 2022 الجمعة ,20 أيار / مايو

لبنان يوجه ضربة مزدوجة لطهران
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon