السياسة تغني أيضاً

السياسة تغني أيضاً

السياسة تغني أيضاً

 لبنان اليوم -

السياسة تغني أيضاً

بقلم:سوسن الأبطح

كثيرون تساءلوا عن سبب الحزن البالغ في لبنان لوفاة زياد الرحباني، وقبلها كان استهجان للجنازة الشعبية الجامعة للراحلة صباح، والألم الذي لف لبنان عند رحيل وديع الصافي وعاصي ومنصور الرحباني. قد يكونون محقين. من الخارج، تتعذر رؤية العلاقة العضوية بين اللبنانيين وأغنياتهم، أو الناس وفنانيهم. فهؤلاء أو بعضهم شركاء فعليون في صناعة الهوية اللبنانية المرتجاة، الوطن المشتهى، تعايش رغد، من دون قذائف وانقسامات وتهديدات.

هؤلاء بأغنياتهم، هم المؤرخون والمؤرشفون والناقدون والمصورون لما سيكون عليه لبنان «الرسالة» كما وصفه ميشال شيحا، «نموذج الدولة التعددية» المتسامية على صغائر الطوائف، «البلد الجسر» على مفترق الحضارات.

قاوم مضطهدو نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بالأغنية، وفي تشيلي قاد فيكتور خارا وفيوليتا بارا حركة غنائية جديدة رافقت النضال الشعبي بعد الانقلاب العسكري، وفي مصر كانت أم كلثوم صوت عبد الناصر ونبضه العاطفي، وانضم عبد الحليم حافظ بما له من شعبية إلى الشادّين عضد النظام الناصري. واشتهر في أميركا بوب ديلان بأغنياته الاحتجاجية المباشرة خلال حرب فيتنام، وانتقد روجر ووترز السياسات الأميركية الخارجية. وفي العالم العربي كان العراق مثالاً على نمو الأغنية السياسية التي انقسمت بين موالية ومعارضة للنظام. لكن العلاقة بين السياسة والأغنية في لبنان، تبدو كأنها ذات طابع فريد، لأنها استطاعت أن تكون سجلاً أميناً للمحطات المتعاقبة، حتى يمكنك أن تؤرخ لعمر البلد الصغير من خلال الأغنيات التي جاءت رداً، واحتجاجاً، وتصويراً لقرن من المحن. وكان لبرنامج «صاروا مية» التلفزيوني عبقرية أن يعيد استذكار المفاصل الكبرى، لمائة سنة من عمر لبنان الكبير من خلال الريبرتوار الغنائي، مع ربط كل أغنية بالحدث الذي رافقته.

غاب ذكر الفنان الكبير عمر الزعني، لكنه كان مصوراً بالكلمات، وناقداً لاذعاً للحياة الاجتماعية، أغنياته تشبه أفلاماً تسجيلية فيها الشخصيات المتنوعة، والسخرية والمرارة معاً. عايش العثمانية وبقي يطلق مونولوجاته إلى ما بعد الاستقلال مازجاً بين الطرب والتهكم: «بدنا ندفع عالكراسي، حتى الهوا صار مفروض عليه رسم نقاسي».

الأخوان رحباني معهما تبلورت التجربة ونضجت. تحولا مع فيروز إلى مؤسسة تولد من رحمها الأغنيات منفردة، أو في الأفلام والمسرحيات. حتى صباح التي ينظر إلى إرثها بشيء من الخفة قدمت في أغنياتها وجه لبنان الذي لا يعرف العبوس ولا الحزن. كلٌّ تفرد بأسلوب وطعم وتصوير جزء من الحلم المنشود، لكنهم معاً غنوا حكاية الوطن المثالي، الذي يراد له أن يكون.

عندما انقسم اللبنانيون خلال الحرب الأهلية، وتذابحوا، كانت المنطقة كلها في سلام، بدوا كما المجانين في واحة الوئام، وصار لكل فئة أغنياتها، التي تصور فيها لبنان على طريقتها. لكن الغريب أن هذه الأناشيد الحزبية، عادت وبدت كأنها تشبه الجموع ولا تفرق بين فئة وأخرى.

ثمة حرص دفين عند صانعي الأغنيات على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس حتى أولئك الذين يختلفون معهم. هذا ما جعل كلمات الأغاني أقرب إلى التورية والترميز، مع غياب أي قمع حقيقي، يمكن أن يصادر أو يمنع. هي الرقابة الذاتية، والرغبة الداخلية في أن يكون أي عمل له وجه وطني يتماهى معه أي مواطن، بمجرد سقوط المتاريس.

بعد انتهاء الحرب الأهلية في التسعينات خفتت الرومانسية وقصص الحب البريئة، وعلت نبرة الكلام عن الفقر، وهموم الناس، والغضب، والفساد.

عادة ما تكون الأغنية المرادفة للحدث السياسي، مرتبطة بلحظة معينة، انقلاب، ثورة، نظام بعينه، لكن الأغنية اللبنانية، هي عكس ذلك كله، هي أنشودة تحاول أن تتكلم بصوت الجموع، أن تترجم تمنياتهم، تطلق صوت ضمائرهم، تصرخ بحناجرهم، تحاول أن تسدّ الفراغ المؤسساتي، تكون بديلاً عن الحكم المقتدر الغائب، لا، بل جاءت لتكشف عورة الأحزاب، وتخلف الفكر العام، وتعوض الخسائر برفع المعنويات، وتمجيد الوحدة المفقودة، والاستقلال المنقوص.

هكذا كان يجوب وديع الصافي بلاد الاغتراب للقاء ملايين اللبنانيين ويغني «يا ابني بلادك قلبك اعطيها وغير فكرك ما بيغنيها، إن ما حميتها يا ابني من الويلات ما في حدا غيرك بيحميها»، فتنسكب الدموع من المآقي، ويشتعل الحلم بالعودة إلى الديار لصونها ورعايتها.

الأغنية في لبنان ليست مجرد أغنية، هي مرجع، منبع، ذكريات، حنين، هي المتنفس في الحروب، والخلاص الوحدوي عند الفرقة، والسلام الداخلي في لحظات العنف، والكلمة الذكية الحكيمة، حين يستشري الجهل ومحدودية الأفق.

قد يقال إن دور المثقف قد انتهى وجاء زمن المؤثرين. لحسن حظ اللبنانيين، أنه لا تزال لديهم مراجع فنية، هي تتضاءل، ترحل ولا تعوض، لكنهم يتمسكون بآخر حبال التضامن، بالفن والأغنية والشعر والموسيقى واللوحة. وإذا كانت الأغنية هي الأسرع في الوصول إلى قلوب الناس، فإن باقي الفنون تتعاضد كلها، لتشيّد وطناً جامعاً، جميلاً، يعيش فيه اللبنانيون، يحلمون ويستريحون، قبل أن يستفيقوا على واقعهم الجهنمي.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السياسة تغني أيضاً السياسة تغني أيضاً



GMT 21:26 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

شفافية في المعلومات والأرقام يا حكومة

GMT 21:25 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

معلقات اليمن

GMT 21:24 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

العصا الرقمية... والهشّ على الغنم

GMT 21:23 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

في عشق السلاح...

GMT 21:22 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا المتحدة... وليبيا المُنقسِمة

GMT 21:21 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

في ذكرى استقلال ليبيا... ماذا أبقيتم للأجيال المقبلة؟

GMT 21:20 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

قوات الاستقرار في غزة

GMT 21:19 2025 الأربعاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بيت لحم... أفراح القلوب المكسورة

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 18:23 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيا سبورتاج 2026 تحصد لقب "أفضل اختيار للسلامة بلاس" لعام 2025

GMT 00:03 2021 الأربعاء ,17 شباط / فبراير

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 18:04 2023 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

اتيكيت مقابلة أهل العريس

GMT 19:07 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

عبير صبري تؤكد إلى أحمد مالك الأخلاق مش بتنفصل عن الفن

GMT 05:24 2013 الإثنين ,20 أيار / مايو

الجماعات الإسلامية" تشن حملة لتشوية الإعلام"

GMT 12:06 2023 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

فيلم «شماريخ» يتصدر شباك التذاكر بـ14 مليوناً و521 ألف جنيه

GMT 12:12 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمم المتحدة وواشنطن تدعمان عائلات متضرري انفجار مرفأ بيروت

GMT 15:19 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل فريدة ومميزة في مجموعة «كروز 2021»

GMT 15:37 2016 الخميس ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

برج القرد..ذكي واجتماعي ويملك حس النكتة

GMT 00:19 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

فوائد حب الرشاد للشعر وطرق تحضير خلطات منه

GMT 18:56 2022 الإثنين ,03 كانون الثاني / يناير

متزلجو لبنان يستعدون لأولمبياد الصين الشتوي

GMT 06:49 2017 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

تعرف علي توقعات درجات الحرارة المتوقعة في مصر الخميس
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon