بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه

بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه

بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه

 لبنان اليوم -

بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه

بقلم:تركي الدخيل

عَجيبٌ ما فعلَهُ شَاعرُ الفَلَاسفةِ، وَفَيلسُوفُ الشُّعراء، أبُو العَلاء المَعَرِّي وهوَ ينقُضُ عُرَى المُتَكبّرِ، باسْتخدَامِهِ منطقاً حِوارياً يمكنُ لِمَنْ يتفكَّرُ به ويتأمَّلُه بِتمعُّنٍ وَتَبَصُّرٍ أنْ يُصدمَ مِنْ حَقَائقَ جَلَاهَا المَعرّي وأزَالَ عنهَا كلَّ خِمارٍ وَكَشَفَ عنهَا كلَّ غِطَاء.

كَانتِ البدايةُ في وصفِ سُلُوكِ المُتكبّرينَ، الّذِي يندُرُ أنْ يَتَنَبَّهَ إليهِ المُتغَطرِسُ وإنْ كَانَ يَتلبَّسُ بهِ؛ إذْ يُمارسُه كلَّ حِينٍ وَفِي كلّ مَكَان!

يُريدُ المتكبرُ أن يُحدثَ جلبةً ودوياً وما يترك إلا قعقعةً بلَا طِحْنٍ ضمنَ بحثِهِ عنِ الشُّهرةِ الفَارِغَةِ وضمنَ هُيامِه المُفرطِ بنفسِهِ، تَراهُ يَمشِي بِتَبخْتُرٍ وَتَغطْرُسٍ، وَيضرِبُ الأَرضَ بِأقدامِهِ، وَكَأنَّهُ يَسيرُ فِي عَرضِ مارشالٍ عَسْكَرِي، لِذلكَ تَلَطَّفَ المَعَرّي بِنَصِيحَتِهِ الشَّفِيفَةِ فَقَالَ:

صَاحِِ هَـذِي قُبُـورُنَا تَمْلَأُ الـرُّحْـبَ

فَــأَيْـنَ القُـبُـورُ مِـنْ عَـهْـدِ عَـادِ

يَبدأُ أبُو العلاء بيتَه بنداءٍ مُرخَّمٍ تّحَبُّباً وَتَلَطُّفاً وَحُنُوّاً معَ المُتغطْرسِ، فيقولُ لَهُ: صَاحِ وَهُوَ تَرْخِيمُ صَاحِبي، فَوَصَفَ المتكبّرَ بِصَاحبِه، وهذَا فيهِ دلالةٌ علَى أنَّ منهجَ النَّصيحةِ الأَمثلَ إنَّمَا يكونُ بالمَحبَّةِ وَاللطفِ واللينِ، لأنَّ النَّاصحَ الحَقيقيَّ مُشفقٌ علَى المَنصُوحِ، والمُشفقُ مُحِبٌ غايتُهُ أنْ يفتحَ اللهُ علَى المَنصوحِ فَيَرِقّ للنَّصيحةِ ويَقتنِع بِهَا وَيَمتثل لَهَا، وليسَ هدفُ النَّاصحِ أنْ ينفخَ ذاتَه ويُطرِبَ داخلَه بصوتِه المُخمَلِيِّ وَهوَ يقولُ لنفسِه بشكلٍ غيرِ مُباشرٍ، أنَا خيرٌ مِنْ هذَا الّذِي لَمْ يَتَوصَّلْ إلَى مَعنَى النَّصيحَةِ، فأنَا أُحَدّثُ المَنصُوحَ مِنْ عُلُوٍّ، حيثُ مَرتبةُ العَالمِ الفَاهِمِ مِثلِي، وأنَا أتَفضَّلُ عَليهِ بِنُصْحِي، وَوَقتِي وَجهدِي وَعِلمِي!

هَذَا النَّوعُ منَ النَّصَائحِ مرَّ علَى مُحرّرِ صِيَاغَةٍ فِي جُمهوريَّة إبليسَ، فَحَبَّرَ النَّصَّ للنَّاصِحِ، وَدَبَّجَهُ بِكلّ تَوَاضُعٍ شَيْطَانِيّ يَكفِي للدّلالةِ عَليهِ مَرَّاتُ اسْتخدَامِ (أنَا) فِي حَديثِ النَّاصِحِ، حَتَّى أوْشَكَتْ أنْ تَتحوَّلَ إلَى (نحنُ) مِنْ كَثْرَتِهَا!

ثمَّ قالَ الشَّاعرُ فِي تَأكيدٍ عَلَى مَنْهَجِهِ المُشْفِقِ فِي النَّصِيحَة:

صَاحِ هَـذِي قُبُـورُنَا تَمْلَأُ الـرُّحْـبَ

فاستخدمَ (قبورنا)، جَامعاً نفسَه معَ المَنصوح، وجعلَهَا قضيةً لا تختصُّ بِالمنصُوحِ وحدَه، حتَّى لَا يتركُه في العَراء وحيداً، بل اعتبرَ الأمرَ مُتَعَلّقاً بِالجَميعِ، ومَا هيَ بِمشكلةٍ ينفردُ بهَا المَنصُوحُ المُتغطرِسُ!

وَقولُهُ (الرُّحب): يريدُ الأرضَ الرَّحبةَ الواسعةَ الشاسعةَ الممتدة، وَهيَ رغمَ امتدادِهَا بلَا حَدٍّ، فإنَّ قبورَنَا تَملأُهَا، منْ كَثْرةِ القُبُورِ.

وَقَصدَ بِالجَمعِ فِي قُبورِنَا: البَشرَ كُلَّهُمْ فِي مُختلفِ العُصُور.

ثم انتقل ليطرحَ تساؤلاً في عجزِ البيتِ، بقوله: فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ؟

أيْ هذهِ الأعدادُ المَهولةُ منَ الخَلقِ، أين هيَ قبورُهم؟ إذا كانتِ الأرضُ تملؤها قبورُنَا نحنُ وأسلافنا المعاصرين فأينَ قبورُ الأوائل؟!

يُلمح الشَّاعرُ إلى أن القبورَ تضيع ملامحُها بالتقادم، وتبقى قبورُ المتأخرين ظاهرةً شاخصةً، لكنَّها إلى زوالٍ سائرة، شأنُها شأنُ قبور المتقدمين.

وتحدَّثَ عن عهدِ عاد بالذات، لأنَّ العربَ كانوا إذا أرادوا أن يتحدثوا عن عصرٍ قديم، ذكرُوا قومَ عادٍ.

وَفِي التَّنزيل: (وإلى عادٍ أخاهم هوداً)، أي وأرسلنَا إلى عادٍ أخاهم هودَا.

ثمَّ ينشدُ المعرّي، بيتاً رائعاً، يخاطبُ به المتكبر:

خَــفِّــفِ الـوَطْءَ مَـا أَظُـنُّ أَدِيـمَ الْأَرْضِ

إِلَّا مِــنْ هَــذِهِ الأَجْـــسَـــادِ

يقول: يا أيُّها المتغطرسُ في مشيتِه، إذ يضرب الأرضَ بقدميه بقوة، خفف وطأك بأقدامك، فأديم الأرض: أي ظاهرها، وهي الطبقة العلوية من الأرض أحسبُها تشكَّلت من أجسادِ الموتى؛ إذ أصبحتْ أجسادُهم جزءاً من التربة. والأرض التي بعضها فتات أجساد البشر الأوائل لا تستحق أن تضربَها بخطوات قدميك القوية، فخفّفْ وطأتَك وخفّف وطأَكَ.

ويبرر نصيحته بتخفيف الوطء، بقوله:

وَقَـبِــيـحٌ بِــنَـا وَإِنْ قَــدُمَ الــعَـهْــدُ

هَــــوَانُ الآبَــــاءِ وَالأَجْــــدَادِ

أي أنَّ إهانةَ الآباءِ والأجدادِ الذين صارَ رفاتُهم على هذه الأرضِ يكون بضربِ الأرضِ بالأقدامِ بقوةٍ، وَهوَ فعلٌ قبيحٌ.

لاحظْ أنَّ المعريَّ يكرّرُ الانضمامَ إلى المنصوحِ بقولِه: قبيحٌ بنَا، ولم يقلْ قبيحٌ بكَ أيُّهَا المُتَغطْرِسُ، مع أنَّ الشَّاعرَ لم يمشِ مِشيةَ التَّكبُّرِ تلك، لكنَّها شَفقةُ المُحِبِّ النَّاصِحِ

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon