يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ!

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ!

 لبنان اليوم -

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

بقلم:تركي الدخيل

بَيْتُ القَصِيدِ الّذِي نَكْتُبُ عَنْهُ اليَوْمَ، هُوَ بَيْتُ شِعْرٍ فِيهِ عَاطِفَةٌ جَيَّاشَةٌ، وَمَشَاعِرُ رَقِيقَةٌ فَيَّاضَةٌ، وَإحْسَاسٌ شَفِيفٌ ظَرِيفٌ، إِذَا أُخِذَ البَيْتُ بِذَاتِهِ وَحِيداً، وبِنَفسِهِ مُنفَرِداً .

وهُوَ مِنْ شِعْرِ شَاعِرِ الدُّنيَا، أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّيِّ، تَقَبَّلَهُ اللهُ بِوَاسِعِ رَحْمَتِهِ، إِذْ يَقُوْلُ:

يَا مَنْ يَعِـزُّ عَلَينَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيءٍ بَعْدَكُم عَدَمُ

وَأَوْرَدَ ابْنُ سِنَانَ الخَفَاجِي (ت466هـ)، فِي «سِرُّ الفَصَاحَة»، بَيْتُ المُتَنَبّي، أوَّلُ ثَلَاثَةِ أبْيَاتٍ، ضِمْنَ أمْثِلَةِ وُرُودِ القَوَافِي مُتَمَكِّنَة فِي الأَشْعَارِ المُخْتَارَة.

وَفِي «مُحَاضَرَاتُ الأُدَبَاء»، قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِي (ت502هـ):

«ويُستَعذَبُ قولُ المتنبيّ، حَتَّى مَا مِنْ أديبٍ إِلَّا وَهوَ يَروِيهِ وَلَا مُغَنٍّ إِلَّا وَهوَ يُغَنِّيهِ:

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَينَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيءٍ بَعْدَكُم عَدَمُ».

وَاسْتشْهَدَ بِهَذَا البَيْتِ، ابْنُ أبِي الإِصْبِعِ العَدَوَانِي (ت654هـ)، فِي كِتَابِه: «تَحْرِيرُ التَّحْبِيرِ فِي صِنَاعَة الشِّعْرِ وَالنَّثْر»)، عِنْدَمَا بَوَّبَ بَابَ «ائْتِلَافُ القَافِيَةِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَائِرُ البَيْت»، فَقَالَ:

«التَّمْكِينُ؛ هو أنَّ يُمَهِدَ الناظمُ لقافيةِ بيتِهِ، تَمهِيداً تَأتِي القَافِيةُ بهِ مُتَمَكِّنَةً فِي مَكَانِهَا، مُستقِرَّة فِي قَرَارِهَا، مُطمَئِنَّة فِي مَوْضِعِهَا، غَيرَ نَافِرَةٍ وَلَا قَلِقَة، مُتَعَلِّقًا مَعنَاهَا بِمَعْنَى البَيْتِ كُلِّهِ تَعَلُّقاً تَاماً، بِحيثُ لَوْ طُرِحَتْ منَ البَيْتِ، اختَلَّ مَعنَاهُ، واضطَرَبَ مَفهُومُهُ، وَلَا يكونُ تَمكنها بحيثُ يقدمُ لفظها بعينِه في أوَّلِ صَدْرِ البَيتِ، أو معنًى يدلُّ عليهَا في أوَّلِ الصَّدرِ، أو فِي أثنَاءِ الصَّدرِ، وَلَا أن يُفيدَ معنًى زَائدًا بعدَ تَمامِ مَعْنَى البَيْتِ، فَإنَّ الأَوَّل يُسَمَّى تَصْدِيراً، وَالثَّانِي تَوشِيحاً، وَالثَّالِثَ إِيغَالًا، وَلَا يُقَالُ لِشَيءٍ منْ ذلكَ تَمكِينٌ أَلبَتَّة».

وَفِي «خِزَانَةُ الأَدَبْ وَغَايَةُ الأربْ»، قَالَ ابنُ حجةَ الحَمَويّ (ت837هـ):

«وَالّذِي عَقَدَ البَدِيعِيُّونَ عَلَيهِ الخَنَاصِرَ فِي هَذَا البَابِ، قَوْلُ أَبِي الطَّيّبِ:

يَا مَنْ يَعِـزُّ عَلَينَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجْـدَانُنَا كُلَّ شَيءٍ بَعْـدَكُم عَـدَمُ»

يَعِزُّ علينَا أنْ نفارِقَهُمْ: يَصعُبُ عَلينَا فِرَاقُهُمْ فهوَ شَدِيدٌ مُؤْلِمٌ لنَا.

وِجْدَانُنُا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ: كلُّ مَا نجدُ بعدَ تَرْكِكُمْ، مَهْمَا كَانَ كَبيراً وَعَظيماً، هَوَ بِفراقِكُمْ عَدَمٌ، لَا قِيمَةَ لَهُ، ولا أَثَرَ، وَلَا مَعنَى.

وَفِي البَيْتِ يُخاطِبُ الشَّاعِرُ أُنَاساً، يَبدُو مِنْ مَعَانِي بَيْتِهِ، أَنَّهُ كَانَ بَينَهُمْ، يَقْضِي مَعَهُمُ الأَوقَاتَ، مُستَمتِعاً بِرُفقَتِهِم، مُستَأنِساً بِخُلَّتِهِم، مَسرُورًا بِمُلَازَمَتِهِم.

وَيَشرحُ بِوُضُوحٍ أَلَمَ الفِرَاق، بِأكثرَ مِنْ مَعْنَى، مِنْهَا تَحَوُّلُ الأشْيَاءِ بعدَ مُفَارقَتِهمْ إلَى لَا شَيء، بِانْعِدَامِ قِيمَتِهَا.

وَهَذَا المَعْنَى الجَلِيلُ الّذِي أَكَّدَهُ المُتَنّبّي فِي بيتِهِ، يَتَّفِقُ غَالِبُ النَّاسِ عَليهِ، فَقِيَمُ الأشْيَاءِ يَرْفَعُهَا حُضُورُ القَيِّم بينَنَا، وَغِيَابُهُ يُفقِدُهَا قِيمتَهَا.

وَكَذلكَ الأَمَاكِنُ، إِذْ تَزدَانُ المُدُنُ بِصُحْبَةِ الخِلَّانِ، وتُصبِحُ عَينَ غُربَةٍ بدونِ مَنْ حوَّلَ وُجُودُهُمْ المُدُنَ وَطَنًا.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ



GMT 22:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

سنوات الهباء

GMT 21:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

حضرموت ومنطق الدولة

GMT 20:52 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

عن هجاء «النظام الطائفي» في لبنان

GMT 20:51 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

الغرب يعالج مشاكله... على حساب الآخرين!

GMT 20:50 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

المشهد البريطاني تحت قبضة «الإصلاح»

GMT 20:49 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

أفكار حول التطوّر التقني وحيرة الإنسان

GMT 20:48 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

بدور نسجت تاريخها

GMT 20:45 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

على وزن المطار السري

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم
 لبنان اليوم - الجزر وفيتامين A عنصران أساسيان لصحة العين وتحسين الرؤية

GMT 13:42 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 10:45 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

التصرف بطريقة عشوائية لن يكون سهلاً

GMT 17:53 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:53 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

فساتين زفاف من جيني بايكهام لخريف 2021

GMT 16:44 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

تسريب صور مخلة للآداب للممثلة السورية لونا الحسن

GMT 21:23 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جبران باسيل يلتقي وكيل وزارة الخارجية الأميركية

GMT 16:36 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

النجمة يستعير لاعب الترجي التونسي شاونا

GMT 12:17 2019 الثلاثاء ,28 أيار / مايو

بوتين والسيسي يترأسان أول قمة روسية إفريقية

GMT 11:37 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

إنفوغراف 21
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon