منطق الدولة ينتصر

منطق الدولة ينتصر

منطق الدولة ينتصر

 لبنان اليوم -

منطق الدولة ينتصر

بقلم : يوسف الديني

في ذروة الانقسام الإقليمي والتصعيد الدولي حول الحرب على غزة، برز الموقف السعودي، ومعه مواقف دول الاعتدال، بوصفه عودة إلى منطق الدولة والعقلانية السياسية في أنقى صورها، حيث تغلّبت الحكمة على الانفعال والمصلحة العليا على المزايدات.

البيان المشترك لوزراء خارجية السعودية والأردن والإمارات وتركيا وقطر ومصر وباكستان وإندونيسيا جسّد هذا التحول النوعي، إذ رحّب بموقف «حماس» واستعدادها للانخراط في ترتيبات سياسية جديدة لإدارة غزة، مؤكداً أنَّ الأولوية هي وقف الحرب وإنقاذ الأرواح، لا تصفية الحسابات.

هذا الموقف يعكس رؤية سعودية متقدمة تتجاوز منطق الشعارات إلى منطق الدولة، وتضع مصلحة الشعب الفلسطيني فوق أي اعتبار، في إطار ما وصفته سابقاً بـ«التسامي السياسي» الذي يوازن بين الثوابت والواقعية، وبين التعاطف الإنساني والوعي السياسي، ويعيد الاعتبار للمسؤولية بوصفها جوهر السيادة. فالمملكة لم تبنِ موقفها على ردود الفعل، بل على تشخيص عقلاني يرى أن استمرار الحرب لن يؤدي إلا إلى مضاعفة المأساة وإضعاف فرص السلام العادل، وأنَّ القضية الفلسطينية لا تُختزل في صراع مسلح، بل في حق مشروع لشعب يسعى إلى الحياة والحرية والكرامة.

بهذا المعنى، أعادتِ السعودية ترسيخَ تقليدها السياسي في تغليب منطق الدولة على منطق التنظيمات والكيانات ما دون الدولة، مؤكدة أنَّ الانتصار لفلسطين لا يكون بالشعارات بل بتحقيق العدالة. وقد تجلّى هذا النهج حين رفضت الرياض الانجرار إلى خطابات الاصطفاف أو التحريض، وحافظت على تموضعها كونها دولة مسؤولة تدرك أن الحل لا يمكن أن يكون جزئياً أو مؤقتاً، بل عملية شاملة تعيد الاعتبار للقانون الدولي.

ومن هنا جاء التحركُ السعودي لبناء تحالف دولي جديد لتنفيذ حل الدولتين، بمشاركة دول الاعتدال وعدد من القوى العربية والإسلامية وشركاء أوروبيين، باعتباره المسار الواقعي الوحيد لإنهاء دورة العنف، وضمان أمن المنطقة واستقرارها. المبادرة لم تكن خطوة ظرفية، بل كانت تعبيراً عن رؤية شاملة تؤكد أنَّ استقرار الشرق الأوسط يمرّ عبر إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وهو المبدأ الذي أكدَّه وزير الخارجية السعودي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين دعا إلى الانتقال من مرحلة الإدانة إلى مرحلة الفعل المتعدد الأطراف.

التحالف الدولي الذي تدفع به الرياض ليس مجرد تحشيد دبلوماسيّ، بل مشروع لإعادة الثقة بالنظام الدولي بعد أن كشفتِ الأزمة عجزه عن حماية المدنيين وفرض قراراته. فالسعودية ترى أن استعادة التوازن لا تكون إلا من خلال مقاربة جماعية تضع الأسس القانونية والسياسية لسلامٍ دائم، وتُخضع كل الأطراف لمعادلة العدالة لا القوة. ولهذا تعمل المملكة على توحيد الجهود العربية والإسلامية والدولية ضمن مبادرة متكاملة تضمن وقف العدوان وفتح الممرات الإنسانية، ثم الانتقال إلى مفاوضات جادة، وهذا من شأنه إعادة تعريف الأمن الإقليمي باعتباره أمن الإنسان أولاً، لا أمن الجغرافيا وحدها. فهي ترى في الحرب على غزة اختباراً للنظام الدولي نفسه، وقدرته على حماية القيم التي ينادي بها.

لذلك كان خطاب السعودية موجهاً إلى المجتمع الدولي بقدر ما هو موجه إلى الإقليم، لتؤكد أنَّ أي سلام لا يقوم على العدالة وحق تقرير المصير للفلسطينيين سيبقى سلاماً هشاً.

لقد استطاعتِ الرياض أن تُخرج القضية من أسر المزايدات إلى فضاء السياسة الواقعية، وأن توازن بين الأخلاق والمصالح، وبين التعاطف الإنساني والدبلوماسية الفاعلة. وهي اليوم لا تكتفي بالدعوة إلى وقف النار، بل تطرح رؤية متكاملة لإعادة إعمار غزة وإطلاق عملية سياسية توحّد الصف الفلسطيني تحت مظلة الدولة الشرعية.

وفي استشراف الوضع الراهن، تسود حالة من التفاؤل الحذر في العواصم المعنية بالمفاوضات الجارية. فالمؤشرات الدولية توحي بفرصة نادرة لتحريك الملف الفلسطيني، لكن العقبات ما زالت قائمة داخل حركة «حماس» التي تعيش انقساماً بين جناح واقعي يلمّح إلى قبول تفاهمات تدريجية، وآخر متشدد يرفض أي تنازل أو نزع للسلاح. وتلفت التقارير الغربية إلى أنَّ الحركة «وافقت من حيث المبدأ» على مقترحات التهدئة، لكنها لم تتعهد بخطوات واضحة، فيما تبقى إسرائيل على موقفها المتصلّب الرافض لقيام دولة فلسطينية، رغم الضغوط الأميركية المتزايدة عليها. ومع أنَّ واشنطن تحاول، في ظل إدارة ترمب الثانية، صياغة ما تصفه بخطة «السلام الأبدي»، فإنَّ الغموض الذي يكتنفها والشكوك في نواياها يجعلانها أقرب إلى مشروع لإدارة الأزمة لا حلّها. وفي المقابل، تتقدم الصين بثقة في الفضاء الدولي، مستثمرة حالة الارتباك الأميركي، ومقدّمة نفسها بوصفها قوة قادرة على رعاية نظام عالمي أكثر توازناً، في وقت تبدو فيه الرياض - بثباتها واتزانها - الشريك الوحيد القادر على الجمع بين القيم الأخلاقية والشرعية السياسية في مقاربة الحل.

وسط هذا المشهد المتداخل، تظلُّ السعودية تمثل صوتَ الدولة في زمنٍ يعلو فيه ضجيج الميليشيات والشعارات، ومركز الثقل الذي يعيد تعريف التوازن بين العدالة والسيادة.

لقد أثبتت الرياض أنَّ الدولة حين تتسامى ترتقي السياسة، وأنَّ القيادة حين تنطلق من وعي تاريخي ومسؤولية إنسانية فهي قادرة على تحويل الكارثة إلى فرصة. هذه هي السعودية اليوم: بوصلة العقل في إقليم مضطرب، ووجه الشرق الأوسط الجديد نحو سلامٍ واقعي يحترم الإنسان ويصون الدولة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

منطق الدولة ينتصر منطق الدولة ينتصر



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon