آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال

آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال؟

آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال؟

 لبنان اليوم -

آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال

بقلم : يوسف الديني

منذ اتفاقية سايكس بيكو، والشرق الأوسط يعيش على وقع التدخلات الخارجية، وعلى رأسها السياسات الأميركية المتذبذبة التي تراوحت بين الانخراط العسكري والانسحاب المفاجئ، بين دعم أنظمة ثم التخلي عنها، وبين المراهنة على الحوار تارة والحروب المفتوحة تارة أخرى. الأكيد أن هذا النمط مما يمكن تسميته بمقاربة «الوجبات السياسية السريعة» لم ينجح في تثبيت استقرار طويل الأمد، بل خلق فراغات ملأتها الفوضى، وصراعات أهلية، وشبكات من الوكلاء المتنازعين. واليوم، بعد صعود قوى الاعتدال وعلى رأسها السعودية، تبدو اللحظة مواتية لإعادة النظر في المقاربات السابقة، والإصغاء لصوت دول المنطقة التي باتت تملك رؤيتها الخاصة، وفي مقدمتها صوت العقلانية من الرياض.

السياسة الأميركية في المنطقة، وعلى مدى عقود، انطلقت من فرضيات أمنية مبنية على احتواء التهديدات لا دعم الاستقرار، وعلى إدارة الأزمات بدلاً من بناء المؤسسات. فبينما ساهمت الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا في بناء تحالفات دائمة ومنظومات تعاون مستقرة، لم تُمنح شعوب الشرق الأوسط الفرصة نفسها، بل بقيت واشنطن تتدخل كلما انفجرت أزمة، وتنسحب حين تحتاج الدول إلى شريك حقيقي في التنمية والسياسة والدبلوماسية. والنتيجة، تاريخ طويل من اللحظات العابرة من السلام تتلوها موجات شرسة من الفوضى.

سابقاً، إيران استثمرت في هذا الإرباك عبر شبكة من الوكلاء، من لبنان إلى اليمن، ومن سوريا إلى غزة. ومع كل محاولة من واشنطن لاحتوائها، كانت تجد في تلك المقاربات فرصة للتكيف والتمدد؛ فالاتفاق النووي الذي وُقع عام 2015 كان ترجمة لفكرة أن الإدماج يمكن أن يحل محل التصعيد.

بالتوازي، تبرز قوى إقليمية جديدة أكثر وعياً بمصالحها، وأشد واقعية في سياساتها. السعودية، التي كان ينظر لها في بعض الدوائر السياسية المتحيّزة ضمن صورة نمطية ضيقة باعتبارها مجرد حليف نفطي أو أمني، لكنها اليوم أثبتت أنها أحد أهم النماذج في الشرق الأوسط التي تمتلك رؤية ناضجة عززتها إصلاحات داخلية واستراتيجية صلبة على مستوى السياسات الخارجية ساهمت في خلق مناخات إقليمية من الاعتدال، والانفتاح، والتدرج، والتوازن بين المصالح الوطنية والمبادئ الكبرى وعلى رأسها المواطنة والسيادة.

عكست الرؤية السعودية الجديدة في مقاربتها للنزاعات في المنطقة تدشين نافذة جديدة تعتمد على فلسفة تصالحية منضبطة، لا تقوم على الإذعان أو التسويات الشكلية، بل على ثلاث ركائز واضحة: أولوية التنمية باعتبارها المظلة الوحيدة للاستقرار، واحترام مبدأ السيادة الوطنية كخط أحمر في العلاقات الدولية، والاستثمار في المواطنة لا سيما في الأجيال الشابة، بوصفها العمود الفقري لأي مستقبل إقليمي متماسك. هذا النهج الذي رسخه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وترجمه إلى مبادرات وجهود حثيثة آتت أكلها وليُّ العهد الأمير محمد بن سلمان، لم يكن يعتمد فقط على الموازنة بين القوة والدبلوماسية، بل أعاد تعريف مفهوم الاستقرار من تصفير النزاعات واستبداله بـ«قوة التنمية».

الفرصة اليوم متاحة لإعادة بناء مقاربة أميركية مختلفة في الشرق الأوسط. لا حاجة لتكرار أخطاء الماضي بالاعتماد على تدخلات سريعة أو رهانات على قوى منبتة من خارج نسيج المنطقة، بل المطلوب العمل على شراكة حقيقية مع دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية، بعيداً عن الوصاية تستمد قوتها من الثقة بفضيلة الاستقرار الذي حققته على مدى العقود الماضية.

أثبتت التجربة أن الضغط العسكري وحده لا يكفي لتغيير السلوكيات، وإن كان مهماً في سياق الردع. المطلوب هو مزيج ذكي من الضغط والدبلوماسية، تقوده دول المنطقة بدعم القوانين الدولية وبكبح جماح العبث والفوضى الإسرائيلية.

التنافس الجديد في المنطقة، سواء بين تركيا وإسرائيل، أو في إدارة الملف الفلسطيني، لا ينبغي أن يربك واشنطن أو يجعلها منحازة إلى تل أبيب، بل عليه أن يدفعها لممارسة دور الموازن لا المنحاز. فالصراعات اليوم ليست آيديولوجية بقدر ما تنتمي إلى حيّز الواقعية السياسية، ويمكن إدارتها ضمن أطر إقليمية تُراعي مصالح الجميع. على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الشرق الأوسط اليوم كما تعاملت مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية: عبر الدعم، والتفويض، والمشاركة، لا منطق القواعد العسكرية والضربات المؤقتة.

لقد آن الأوان أن تنتقل واشنطن من دور رجل الإطفاء إلى شريك في البناء. وأن تُدرك أن الشرق الأوسط، بمن فيه من قوى مركزية كالسعودية، لم يعد مجرد ساحة أزمات بل بات مركزاً محتملاً للاستقرار إذا ما مُنح الدور القيادي المناسب. إن مقاربات الأمس أثبتت عجزها، وحان وقت التحول نحو رؤية محلية مستدامة، تقودها قوى الاعتدال، وتحظى بدعم دولي لا يتجاوزها، بل يعتمد عليها.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 12:25 2020 الثلاثاء ,04 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 13:01 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يبدأ الشهر مع تلقيك خبراً جيداً يفرحك كثيراً

GMT 06:15 2023 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023

GMT 22:22 2016 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

عطر Bamboo من Gucci الرقّة والقوّة في مزيج واحد

GMT 13:00 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

رحلة الى عالم أوميجا رؤية استباقيّة لمستقبل صناعة الساعات

GMT 05:00 2020 الإثنين ,05 تشرين الأول / أكتوبر

أصوات 20 ألف جزائري تحدد مصير جزيرة قرب أستراليا

GMT 21:50 2014 الإثنين ,02 حزيران / يونيو

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها "G3"
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon