إيران وإسرائيل صراع الردع وعبء المغامرات

إيران وإسرائيل: صراع الردع وعبء المغامرات

إيران وإسرائيل: صراع الردع وعبء المغامرات

 لبنان اليوم -

إيران وإسرائيل صراع الردع وعبء المغامرات

بقلم : يوسف الديني

في خضم التصعيد المتسارع بين إيران وإسرائيل، يتشكّل مشهد إقليمي جديد لا تحكمه الانفعالات وحدها، بل يتداخل فيه منطق القوة مع حسابات الردع، وضرورات السياسة مع حدود البقاء. فالحرب التي كانت تدار طويلاً عبر الظل والوكلاء، باتت الآن مواجهة صريحة، تُخاض في وضح النهار، وتحت نظر العالم. وما يجري لم يعد يُقرأ فقط في سياق نزاع مسلّح بين دولتين، بل على أنه أكبر اختبار لنظرية اللعبة (Game Theory) ضمن سياق دولي وإقليمي معقد، حيث تتواجه الأطراف المتنازعة تحت ضغط الزمن وتكلفة القرار وتبعاته.

إسرائيل، التي لطالما وصفت إيران بأنَّها خطر وجودي، قرَّرت تحريك قواعد الاشتباك من جديد، عبر سلسلة من الضربات التي تم الإعداد لها منذ وقت طويل، شملت اغتيالات داخل إيران، وتدمير أنظمة دفاعية، وهجمات على البنية التحتية العالية الحساسية. إسرائيل بهذا الاندفاع الحربي لا تسعى فقط إلى ردع إيران، بل إلى إعادة هندسة ميزان الردع ذاته، عبر خلق ما يُعرف في النظرية بـ«الردع المهيمن»، أي حالة توازن لا يتجرأ الطرف الآخر على كسرها لأن تكلفة المحاولة باهظة. وفي المقابل، تجد طهران نفسها في قلب معضلة كلاسيكية تُعرف أيضاً ضمن ذات النظرية الشهيرة في العلوم السياسية بـ«لعبة الدجاج»، حيث لا تملك طهران رفاهية الانسحاب، ولا تضمن نتائج الصدام مع مرور الوقت، فتندفع في مسار تصعيدي قد يكون مجازفاً مهما بلغت شراسة الردّ.

الهجمات التي شنّتها إسرائيل طالت رموزاً وشخصيات مركزية في المشروع الإقليمي الإيراني، وعكست هشاشة البنية الاستخبارية والعسكرية لطهران. وبينما حاولت إيران الرد عبر إطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة، فإن أثرها الميداني لا شك أنه في سياق ديموغرافي وجيوسياسي مؤثر بالحسابات الإسرائيلية، لكنه أقل من صورة طهران الذهنية لدى جمهورها من تيار الممانعة، وهو ما يطرح سؤالاً استراتيجياً: هل فقدت طهران قدرتها على الردع؟ أم أنها تمارس ما يُعرف بـ«رد الاعتبار الرمزي» فقط لحفظ ماء الوجه أمام الداخل ومراعاة حسابات الأطراف الدولية طمعاً في توقف الحرب؟

وفي هذا السياق، تبرز الولايات المتحدة بوصفها الفاعل الثالث في اللعبة، وهو ما يضاعف من تعقيد المشهد خصوصاً مع إدارة الرئيس ترمب ومن ورائه جمهوره من حزب ماغا، فبينما تؤكد إدارة ترمب التزامها الحلول الدبلوماسية، لا يُمكن فصل الضربات الإسرائيلية عن الدعم اللوجيستي والتقني والاستخباراتي الأميركي حتى مع التردد بين النفي والإيماءات التأكيدية، مما دفع إيران إلى التوجه إلى واشنطن بأصابع التجريم بوصفها طرفاً مشاركاً، وإن أنكرته. وهذا الانطباع قد يفتح المجال أمام توسيع دائرة الاشتباك في حالة احتدام الحرب وامتداد الخسائر ومضي الوقت، لتشمل أهدافاً أميركية، بخاصة في ظل حديث الجناح المتشدد في طهران عن خيارات «الرد على التواطؤ».

في هذا المناخ المضطرب في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، تقدّم السعودية نموذجاً مغايراً تماماً، يكتسب ثقله ليس فقط من قدراتها الإقليمية، بل من تموضعها بصفتها دولة متوازنة منحازة دوماً إلى الأعراف والقوانين الدولية في أحلك الأزمات. ففي وقت كانت فيه بعض الأطراف تلتزم الصمت الحذر، أصدرت الرياض موقفاً سياسياً واضحاً أدانت فيه «الاعتداءات الإسرائيلية السافرة» تجاه «الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة»، ووصفتها في بيانها الرسمي بأنَّها «تمس سيادتها وأمنها، وتمثل مخالفة صريحة للقوانين والأعراف الدولية». هذا البيان لم يكن انحيازاً إلى طرف، بل كان دفاعاً مبدئياً عن استقرار المنطقة وسيادة الدول، وهي مبادئ لطالما تبنَّتها السياسة السعودية الخارجية، وباتت واحدة من أهم ركائزها الاستراتيجية في تقاليدها للسياسة الخارجية.

لكن الأكثر تعبيراً عن ثبات هذا النهج، جاء في المقاربة الإنسانية والتوجه الإنساني الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين، بناءً على عرض من وليّ العهد، بتسهيل حج الحجاج الإيرانيين، وتوفير جميع الخدمات لهم رغم الظروف الصعبة، في لفتة تجمع بين أرقى صور الإنسانية والمسؤولية الأخلاقية، وأكدت السعودية أنَّ حمولة الماضي لا يمكن أن تصرفها عن ثوابتها، وأنَّ الخلاف السياسي أو التباين في وجهات النظر لا يعني المساس بالثوابت لمقاربتها تجاه الحقوق الأساسية؛ ومنها سلامة الحجيج حتى لحظة وصولهم إلى بلدهم بوصفهم ضيوفاً معززين مكرمين.

هذا السلوك السعودي يُمثّل نموذجاً فريداً في منطقة اعتادت الاستقطابات: نموذج الدولة التي لا تُقامر أو تستغل الأزمات، ولا تنحاز إلى منطق «الاصطفاف الأعمى»، بل تعمل على ترسيخ «النموذج الرشيد الأخلاقي، أي الحفاظ على توازن المصالح والمبادئ في آن. والسعي بثبات نحو التهدئة الاستراتيجية وتحييد الشعوب عن تكلفة المواجهة أو تبعات الفوضى» وهذا ما يشكِّل مصدر فخر لنا ونحن نقرأ هذه المواقف المشرفة.

الحرب بين إسرائيل وإيران مرشحة لأن تطول، أو تتخذ أشكالاً غير تقليدية من الكرّ والفر أو الحرب السيبرانية أو تفعيل النزاعات عبر الوكلاء، إلا أن المشهد الحالي يكشف عن حدود القوة العسكرية في صناعة الاستقرار. الردع الصاروخي لا يعوّض غياب القواعد السياسية، والتفوق الاستخباراتي لا يصنع وحده سلاماً دائماً. وما بين منطق «الضربة الاستباقية» و«الرد»، يبقى ميزان الشرق الأوسط هشاً، لا يصمد إلا حين تتقدم الدول العاقلة لتثبيت توازن جديد، لا يقوم على مَن الأقوى عسكرةً، بل من الأقدر على ضبط نفسه في لحظات الفوضى والتهديد الوجودي.

بهذا المعنى، تتحول الحرب الإيرانية - الإسرائيلية إلى مختبر مكشوف لنظريات الردع والتصعيد، لكن نتائجها لن تُقاس فقط بعدد الصواريخ أو الأهداف المصابة، بل بما ستتركه من أثر في إعادة تعريف مراكز الثقل السياسي في المنطقة. وفي هذا المختبر، أثبتت دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية أنها لا تبحث عن دور طارئ أو انفعالي، بل تُعيد تشكيل موقعها بوصفها مركز استقرار ووزن أخلاقي، في شرق أوسط يئنّ تحت عبء المغامرات.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إيران وإسرائيل صراع الردع وعبء المغامرات إيران وإسرائيل صراع الردع وعبء المغامرات



GMT 14:58 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

عقليّة الغلبة دمّرت لبنان

GMT 14:32 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

محارق

GMT 14:31 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

صورة المسلم بين عائلتين

GMT 14:30 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

حزب البعث اللبناني: أهمية ما ليس مهماً

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

جوع وصقيع وفزع

GMT 14:29 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

أبواب دمشق

GMT 14:28 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

«كايسيد»... الحوار هو الخيار

GMT 14:26 2025 الأربعاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا والحوار المهيكل

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:23 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 06:50 2016 الجمعة ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال نيوزيلندا العنيف يتسبب في تحريك جزر رئيسية

GMT 22:25 2019 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

3مستحضرات فقط تخفي علامات تعب وجهك نهائيا

GMT 18:35 2019 الخميس ,18 تموز / يوليو

5 أسرار لتطبيق المكياج من أجمل نساء بريطانيا

GMT 16:57 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"موريشيوس" ملاذ رومانسي ساحر لقضاء شهر العسل

GMT 13:05 2012 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

إضراب في مطار شرم الشيخ يتسبب في إغلاق جزئي أمام السياح

GMT 04:44 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

لاكوتريبيس يعلن اكتشاف حقل غاز على سواحل قبرص

GMT 18:00 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت دفع فاتورة حساب المطعم

GMT 10:31 2013 الجمعة ,23 آب / أغسطس

نظافة المدرسة من نظافة الطلاب والمدرسين

GMT 07:27 2014 الثلاثاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جائزة لـ«فقه العمران»

GMT 21:14 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

تعرف علي توقعات أحوال الطقس في لبنان الاربعاء

GMT 18:27 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

انفجار في مدينة بنش في ريف إدلب السورية

GMT 00:31 2021 السبت ,13 آذار/ مارس

تخفيض سعر تعرفة فحص الـPCR الى 100 الف ل.ل!
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon