ناصر والقذافي وبورقيبة

ناصر والقذافي وبورقيبة

ناصر والقذافي وبورقيبة

 لبنان اليوم -

ناصر والقذافي وبورقيبة

بقلم : عبد الرحمن شلقم

تناقلت وسائلُ الإعلام العربية مؤخراً، نصَّ المكالمةِ الهاتفية بين الراحلين جمال عبد الناصر والعقيد معمر القذافي. في البداية شكَّك الكثيرون في صحة المكالمة، ولكن ابن عبد الناصر وبنته أكَّدا صحتها، فبُهت المشككون، وبدأت المنازلة بين المادحين والقادحين لجمال عبد الناصر، الذين تملكتهم عقدة المؤامرة، وذهبوا إلى أنَّ نشر المكالمة بين الراحلين جمال ومعمر، له غايات سياسية. في هذا الخضم من التراشق بالكلمات، التي استطالت فيها الأصوات واستدارت، وطفح صِدام الاصطفاف بين جحافل المدح والهجاء. المكالمة كانت في زمن لم تجفّ فيه الدماء، ولم ينقشع فيه غبار الانكسار وحرقة الهزيمة. تكلم الزعيم الرمز جمال عبد الناصر بلسان نبت فيه شَعرٌ أبيضُ، وغشته ثقوبُ الشدائد. بعدمَا كان يجلد بسوط ذلك اللسان الشاب الأشقاء الأعداء، ويضرب بأجراسِه العدوَّ الإسرائيلي ومن ورائه الإمبريالية.

الفيلسوف الهولندي الكبير باروخ سبينوزا قال: «علينا أن نتعلم أولاً كيف نفهم»، عندما كان يخوض معركة العقل مع المنغلقين، في الطائفة اليهودية بهولندا، الذين كفَّروه وحكموا عليه بالخروج من اليهودية؛ ما دفع بشاب متزمت، إلى الهجوم عليه محاولاً قتله. ما قاله عبد الناصر كان آهة حكمة بلسان فارس هزيل. زعيم قضى بستانَ عمره في معارك عسكرية وسياسية، وقودها وسلاحها جبال إصرار، وأهدافها وميض أحلام، طافت أمواجها بين المحيط والخليج العربيين، تهتف بتحرير فلسطين ووحدة العرب. تبخَّرتِ الوحدة بين مصر وسوريا في سراب الانقلابات، وجثمتِ الهزيمة على حلم تحرير فلسطين. لحق جمال عبد الناصر المصارع الآمل المنكسر، بالفارس المحبط الشاعر أبي الطيب المتنبي القائل في رحلة الوهن والقعود:

تعوَّدَ أن يغَبَّرَ في السرايا

ويدخلُ من قَتامِ في قتامِ

فأُمسك لا يُطالُ له فيرعى

ولا هو في العليقِ ولا اللجامِ

كانت بدايات عبد الناصر المبكرة، قتاله في حرب فلسطين، التي ذاق فيها مرارة الحصار، وانتهت بالهزيمة واحتلال فلسطين. ثم هبَّت رياح المعارك السياسية والوطنية، بعد قيادته الثورة المصرية، وتأميمه قناة السويس، حيث واجه جيوشاً ثلاثة، إلى تجربة الوحدة مع سوريا، حيث تجرَّع كأس الفشل. حرب اليمن التي دخلها يدفعه حلم وأمل، تاها في جبال اليمن. وقف جمال عبد الناصر على حلبة منازلته مع الزمنين العربي والعالمي، وفي يديه قُفَّازان من حلم وإصرار. فاز في بعضها بالنقاط السياسية، لكن الضربة القاصمة القاضية، كانت كالصاعقة التي أطاحته والحلبة. في يوم الخامس من يونيو (حزيران) سنة 1967، قُرع ناقوسُ زلزال الزمن الرهيب. هزيمة أحرقت كلَّ ما زرعه جمال عبد الناصر، في بستانه على مدى سنين ورواه بصوت لسانه المجلجل، ودماء المقاتلين المصريين وثروة مصر. في أيام معدودة احتلت إسرائيل مساحة من الأراضي العربية تفوق مساحتها مرات ومرات، بعد هزيمتها ثلاثة جيوش عربية في ستة أيام. كأي قائد كتبت الأيام في صفحة عقله، حروفها الحادة الحارة، كان عليه أن يقرأ تلك الصفحة بعين الواقع، على ضوء مسؤوليته الوطنية الثقيلة. جروح القائد هي جروح الوطن كله، تغوص في كامل جسده. ما جاء على لسان عبد الناصر في مكالمته مع العقيد معمر القذافي، كان بوح الجروح العميقة، التي لم توفّر موضعاً في جسد الرئيس والوطن المصري. مرة أخرى يئن عبد الناصر مع الشاعر جريح الزمن، أبو الطيب المتنبي عندما قال:

رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتى

فؤادي في غشاءٍ من نبالِ

فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ

تكسَّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ

أظن، ولا أقول أعتقد، أن ما قاله جمال عبد الناصر في مكالمته مع العقيد معمر القذافي، يستحق أن نقرأه بموضوعية، بعيداً عن منهج الاصطفاف والمدح والقدح، في منطقتنا التي لم يهجرها الصراع المزمن. ما قاله عبد الناصر، كان عصارة العصارة لما أنتجته ثِمار مرحلة طويلة من الزمن العربي. خلافات عربية بين من وصفوا أنفسهم بالثوريين التقدميين، والدول التي أطلقوا عليها الرجعية؛ ما كرس انشقاقاً وأجَّج العداوة. تفكير الشعارات المهيج عبر وسائل الإعلام، الذي رفع سقف الحلم بين عامة الناس، وانقطعت خيوط تبادل الأفكار بين القادة، وهيمنت المزايدات الصوتية الإعلامية، التي طغت على صوت العقل السياسي الواقعي. أسوق الآن واقعتين موثقتين، أولاهما لقاء الرئيسين الراحلين التونسي الحبيب بورقيبة والمصري جمال عبد الناصر. في سنة 1964، عقدت القمة العربية بالقاهرة. التقى الرئيسان في جلسة ثنائية مغلقة. قال بورقيبة لعبد الناصر أنت الآن لك مكانتك الدولية، ويمكنك أن تدعو إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 181، وأن نقيم دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وبعد ذلك نطالب بالمزيد. لم يعترض عبد الناصر. بعدها زار بورقيبة مدينة أريحا، بالضفة الغربية وطرح مبادرته. رماه الجمهور بالحجارة والبيض الفاسد، وشنَّ عليه الإعلام المصري حملة عاصفة، ووصفه بالرجعى الخائن. في سنة 1972، ألقى معمر القذافي كلمة في تونس، دعا فيها إلى الوحدة بين ليبيا وتونس، هرع بورقيبة إلى المكان وألقى كلمة طويلة، خلاصتها أنَّ العرب في حاجة إلى العلم والسياسة الواقعية، وقال للقذافي: «أنت تعادي أميركا! تعطيك طريحة، (أي ضربة عنيفة)». ماذا لو ساد العقل السياسي؟» بورقيبة عرف العالم، وبنى أمة حديثة. جمال عبد الناصر قال كلماته العصارة الأخيرة، قبيل الرحيل بأيام.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ناصر والقذافي وبورقيبة ناصر والقذافي وبورقيبة



GMT 14:55 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

بدعة النزاهة

GMT 12:21 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

نريد نتائج لا تنظيرًا

GMT 12:20 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مرشحو الرحيل

GMT 12:19 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مادورو على توقيت ترمب

GMT 12:18 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

القزويني والمياه الرقمية المُلوّثة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الفاشر وتغيّر قلوب الرجال

GMT 12:15 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

النشاز الإسرائيلي في الدبلوماسية الأميركية

GMT 12:14 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

الإلغاء لا يحل مشكلة القوائم

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon