أمـيركـــا  تــترنـــح

أمـيركـــا ... تــترنـــح

أمـيركـــا ... تــترنـــح

 لبنان اليوم -

أمـيركـــا  تــترنـــح

علي الجرباوي
بقلم : علي الجرباوي

في مؤلفه الشهير، المقدمة، أورد ابن خلدون رؤيته لحياة الدول، منذ القيام وحتى التفكك والاندثار.وقد لخّص هذه الحياة بمرور الدولة بخمسة أطوارٍ متعاقبة. أولها، "الظفر بالبغية"، عندما يتّم الاستيلاء على المُلك وإقامة الدولة.
وثانيها، طور "الاستبداد على القوم" لتحقيق تثبيت المُلك وتمتين دعائم الدولة.أما ثالثها، فهو طور "الفراغ والدّعة"، ويتمّ خلاله بناء عزّ ومجد المُلك، وتشهد خلاله الدولة أوج قوتها وتبلُغ أعلى درجات عظمتها التي تميزّها مظاهر الازدهار والعمران.والطور الرابع هو "القنوع والمسالمة"، وفيه يتم الاكتفاء بتقليد السَلف، والاتكاء على ما تحقق من إنجازات سابقة، بتآكل ودونما إضافة.

وأخيراً، تصل الدولة إلى طورها الأخير، وهو "الإسراف والتبذير"، والذي تستهلك فيه ما تبقى لها من رصيد جرّاء انهماكها في تتبّع الملذات، ما يؤدي إلى وهَنها وهرمها، فتتهدم وتندثر.هذه الدائرة المتكررة تؤدي، من وجهة نظر ابن خلدون، إلى تعاقب الدول على بعضها، دول تنشأ وأخرى تذوب، وفق مراحل أشبه بما يمّر بها الإنسان في الحياة، من المولد حتى الممات. ومع أنه ذَكر أن حياة الدولة تمتد لثلاثة أجيال، ورابعها يكون الأخير الهادم، إلا أن تقدُم سبل الحياة بعد ابن خلدون يمكنه أن يطيل من مدى استمرار الدولة لفترة تستمر أكثر مما توقع بكثير.

لقد اعتمد ابن خلدون في تفسيره لحياة الدول على مدى قوة تماسكها الداخلي؛ على مناعتها الذاتية التي تُكسبها القوة، وتمنحها الصلابة، وتُعطيها الدافعية.هذه المناعة هي ما أطلق عليه تعبير "العصبية" (من العَصب وليس التعصب).هذه العصبية لا تدّل فقط على مدى ترابط الأفراد مع بعضهم بروابط إرثية تدفعهم للتجمع مع بعضهم البعض، وإنما تدلل أيضاً - وهذا هو الأهم - على مدى ارتباطهم بغايةٍ يصبح تحقيقها الأساس المتين لتجمّعهم.
العصبية، إذاً، هي منظومة تصهر طاقات الأفراد مع بعضها، فتوحدها وتوجهها نحو تحقيق هدف مشترك وغاية عليا.

وعندما تكون العصبية متينة يتوحد القوم وتصبح الدولة قوية. وعندما ينفرط عِقد هذه العصبية وتبدأ بالارتخاء، تبدأ الدولة تضعف وتدخل طور الاضمحلال.باختصار، منبع قوة الدولة داخلي ويتعلق بالنسيج الترابطي لأفرادها وارتباطهم بغاية موحدة. وكلما زادت متانة هذا النسيج تصاعدت قوة الدولة وحافظت على استمراريتها وبقائها. وبالمقابل، عندما يضعف هذا النسيج تتهاوى دعائم الدولة وتبدأ مسار انحدارها.
***
تتربع الولايات المتحدة الأميركية على قمة النظام الدولي أحادي القطبية في عالمنا المعاصر حالياً.هي أقوى قوة عسكرية على وجه الأرض، تمتلك مخزوناً هائلاً من السلاح النووي، إلى جانب ترسانة أسلحة تقليدية ضخمة لا يضاهيها مثيل لدولة أخرى.تجوب حاملات طائراتها وأساطيلها محيطات وبحار العالم، ولها قواعد عسكرية منتشرة في مختلف أرجاء اليابسة. كما وهي أقوى دولة اقتصادياً في عالم اليوم، فربع اقتصاد العالم بأسره أميركي.
وهي رائدة في مجال الابتكارات التكنولوجية، وفي سيطرتها المالية، وقدراتها العلمية. ولذلك هي تتمتع بامتلاك مجموعة متكاملة من قوى استحواذية كبرى تجعل منها القوة الرئيسة العظمى التي لا تضاهيها دولة أخرى الآن.
ولكن كل هذا الاستحواذ، وما ينتج عنه من مؤشرات باهرة، لا يعني أن هذه الدولة العظمى في مأمن على استمرارية مكانتها في مستقبل الأيام.

فمكانتها المتقدمة على غيرها ليست حصينة أو محصنة، بل هي تتآكل بصورة متسارعة، ما ينبئُ بدنوّ تهاويها وقرب تنحّيها عن مكانتها المتفردة في النظام الدولي الحالي.في هذا السياق يجب الانتباه إلى ضرورة عدم الالتباس حول الأسباب الكامنة وراء ذلك. فتنافسية الصين الصاعدة اقتصادياً، أو جموح روسيا العسكري، أو بزوغ قوى كبرى جديدة متحفّزة للعب دور أكبر على الصعيد الدولي، ليست هي الأسباب التي ستؤدي إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة، بل قد تكون هي المؤشرات الدالة على هذا التراجع الكامن خلفه سبب جوهري آخر.

هذا السبب الجوهري هو ما تعانيه أميركا من خلل داخلي متفاقم سيقوّض لها مكانتها المتفردة، وسَيودي بتربعها على قمة الهرمية الدولية.فهي تعاني منذ فترة من ضعف "عصبية" ابن خلدون، ما أدى إلى انهيارات متعاقبة في ركائز نسيجها الاجتماعي - السياسي. وهذه الانهيارات تُقلّص مناعتها الذاتية، وتضعفها داخلياً، وتكشفها خارجياً.لم يكن وصول دونالد ترامب هو المسّبب لكل ما تشهده أميركا من تراجعات الآن، بل قد يكون النتيجة الحتمية لها.
فعصبية أميركا بدأت بالتحلل قبل وصوله لسدّة الرئاسة بأعوام، إن لم يكن بعقود. ولكن من المؤكد أن طريقته الفجّة والاستفزازية في الحكم، والتي تنّم عن مكامن استعلائية عنصرية، قد ساهمت برفع الغطاء والكشف عن المستور من هذا التحلل.

أميركا غارقة الآن في انقسام اجتماعي، رأس حربته عرقيّ المظهر، ولكنه يفوق ذلك بالتمحوُر حول تقسيم الثروة بين القلّة القليلة ممن يملكون، وكثرةٍ ممن لا يملكون، من جهة. ومن جهة أخرى، بين فئة تحمل فكراً انغلاقياً، عنصرياً، متعصباً، وأخرى ذات توجهات ليبرالية، تسامحية، وانفتاحية.هذا الانقسام الاجتماعي أصبح حاداً واستقطابياً، يشطر أميركا إلى قسمين متضادين متصارعين.وفوق هذا الانشطار آخر؛ سياسيّ يُقسّم البلد إلى جمهوريين وديمقراطيين، وهو انقسام حاد يحيل أعمال الحكم والحكومة إلى مواجهة دائمة مليئة بالإعاقات والعراقيل.

لقد فقدت الولايات المتحدة بوصلتها الموجِهة، ما أضاع منها غاية الوجود، وأفقدها الأمل والعمل لتحقيق الهدف المرتجى.بفقدان "العصبية"، أي القوة التماسكية الداخلية والمنارة الموجهة للجهد الجمعي الأميركي، بدأت أميركا تئن تحت وطأة ضغوطها الداخلية، كما بدأ يظهر للعالم ما تعاني منه من تشققات وتصدعات.وما المحاولات اليائسة البائسة التي يقوم بها ترامب لاستعادة التقاط الأنفاس خارجياً، وفرض استمرارية الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية، سوى انعكاس لحالة الفزع التي وصلت لها تلك البلاد.كما يقولون: لقد غادر القطار المحطة. وما تشهده مدن أميركية كبرى هذه الأيام من مظاهر احتجاجية وأعمال عنف متدحرجة لهو دليل ساطع على ما آل إليه الحال الأميركي الآن: تجويف داخلي وخواء، لا يمكن إلا أن يُنذر بانهيار.
***
قد يكون من الضروري، والمُجدي أيضاً، البدء بالتفريق بين مفهومي "القوة" و"المنَعة".فمن الممكن أن يكون قصد ابن خلدون من "العصبية" هو "المنَعة"، وليس "القوة". فالقوة هي قدرة ظاهرة ذات مقومات كميّة، بينما المنَعة هي قدرة كامنة ذات مقومات نوعية.يمكن من خلال تكديس المقومات الكميّة أن تتم مراكمة القوة، ولكن القوة دون منَعة لن تحقق الكثير. وهذا هو حال أميركا الآن: قوة هائلة، ومنَعة متداعية.والريح لا تُسقط، بالعادة، سوى الأشجار المُسوّسة، حتى وإن كانت باسقة.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أمـيركـــا  تــترنـــح أمـيركـــا  تــترنـــح



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 22:24 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

تتمتع بالنشاط والثقة الكافيين لإكمال مهامك بامتياز

GMT 00:05 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 20:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 08:41 2018 السبت ,15 كانون الأول / ديسمبر

أحمد في ورطة؟

GMT 18:57 2025 الأحد ,05 تشرين الأول / أكتوبر

موديلات عبايات لصيف 2025 ستجعلك تبدين أصغر سناً

GMT 13:03 2020 الإثنين ,07 كانون الأول / ديسمبر

زاهى حواس يكشف طلب الرئيس السادات عندما زار المتحف المصرى

GMT 14:57 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

حريق داخل بسطة خضار بداخلها غالونات بنزين ومازوت في بعبدا

GMT 23:57 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

5 نصائح تمكنك من الانسجام والتفاهم مع شريك حياتك

GMT 22:53 2021 الإثنين ,08 آذار/ مارس

انا والكورونا و المرأة في يومها العالمي

GMT 16:11 2022 الجمعة ,20 أيار / مايو

لبنان يوجه ضربة مزدوجة لطهران
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon