بقلم : حسن خضر
ما زلنا في سياق قراءة، والتعقيب على، كتاب «حرب الأبد: داخل حلقة أقصى اليمين لبانون وسماسرة السلطة في العالم» للأميركي بنجامين تايتلباوم. وقد تناولنا في معالجتين سابقتين: «التقليدية» كمرجعية نظرية لأقصى اليمين الأميركي والأوروبي، ورجّحنا أن تكون السلفية، بالعربية، هي الأصدق تعبيراً عن Traditionalism هذه، وفكرة الزمن الدائري بوصفه العمود الفقري لمدرسة رجعية فاشية من سوء الحظ، بالنسبة لسلامة العالم وسلامه، أن بعض المتأثرين بها أصبحوا أصحاب نفوذ في مراكز صنع القرار الأميركية والأوروبية.
ونعالج، اليوم، ما سبق وألمحنا إليه، في ختام مقالة الثلاثاء الماضي، عن «إدارة التوّحش»، وموقع الأخ دونالد ترامب (غير المفتون بشيء، في الكون، غير اسمه، ورسمه، وتسريحة شعره، ورصيده في البنك، وصورته على شاشة التلفزيون، وليتر الكوكاكولا على مائدة الإفطار)، في هذا كله، وفي الخلفية مزيج من شطحات تنتمي إلى أسوأ ما أنجبت الثورة على الأزمنة الحديثة، والحداثة التي نزعت السحر عن العالم، من توليفات أيديولوجية سخيفة ومشوّشة تكفي لسم البدن، وقرع أكثر من ناقوس للخطر.
وقبل الشروع في هذا، ثمة ما يستحق التذكير بحقيقة أن تسعة وتسعين وتسعة أعشار بالمائة من أفكار السلفيات السلمية المُسالمة، والجهادية المُقاومة، تعاني من الفقر الفكري، والغربة والاغتراب عن الزمن الذي تعيش فيه، بما ذلك «غزوات» وهابيين ينشبون من وقت إلى آخر «أسنانهم الفكرية» في شيء يُسمّونه «العلمانية»، ويحصلون في بلادهم على شهادات جامعية.ورغم أن سلفيات أقصى اليمين الأوروبي والأميركي أكثر كفاءة بالمعنى الفكري من مثيلاتها العربيات إلا أنها لا تقل عنها غربة واغتراباً عن الزمن الذي تعيش فيه، وتدعو للخلاص من شروره.
هذا أمرٌ. والثاني أن الفقر الفكري، والغربة عن الزمن كانا، في الماضي، في الشرق والغرب على حد سواء، مصدر حرج وخجل للجانبين، ولكنهما تحوّلا، مع صعود يمينيات وشعبويات كثيرة، وقليلة الحياء، عند العرب والعجم، في السنوات الأخيرة، إلى سلاح أيديولوجي يسعى لاحتلال المتن بذريعة الأصالة، والتمثيل الصادق الأمين للهوية، كائناً ما كانت.وأود التذكير، هنا، بأنني أتفادى بقدر الإمكان ذكر أسماء منظري الحركيين الوهابيين والإخوان، حتى في معرض التدليل على فقرهم وافتقارهم للكفاءة الفكرية، والنزاهة الأخلاقية، انطلاقاً من الأسباب نفسها التي دعت رئيسة وزراء نيوزلندا لعدم ذكر اسم الإرهابي الأبيض الذي ارتكب مجزرة في مسجدين قبل عام في تلك البلاد. فكل ذكر لهؤلاء، حتى بالذّم، يُسهم في الترويج لهم.
ومع هذا كله في الذهن يستوقفنا، كما استوقف تايتلباوم، تعبير «رجل في الوقت المناسب»، الذي جاء على لسان ستيف بانون في معرض الكلام عن دونالد ترامب.يبدو التعبير، للوهلة الأولى، خالياً من السم القيامي، ولكن وضعه في الحقل الدلالي لـ «التقليدية»، وقياسه بمسطرتها الأيديولوجية يفتح صندوق باندورا العجيب، ويُطلق الأفاعي، رغم أن استجابة بانون نفسه لا تنم عن دراية كافية بالحقل الدلالي المذكور.فتعبير «رجل في الوقت المناسب» هو الثالث في قائمة تضم صفات رجال يختارهم القدر لتمثيل هذا الدور أو ذاك في تبدّل العصور التاريخية، والحركة الدائرية للزمن.
فهناك «رجال فوق الزمن»، و»رجال ضد الزمن». وهذا كله ينتمي إلى تصوّرات بلورتها سيّدة فرنسية وُلدت في أوائل القرن العشرين، تأثرت بمدرسة غينون (الشيخ عبد الواحد) والإيطالي إيفولا، «التقليدية»، واعتنقت الهندوسية، أطلقت على نفسها اسم سافيتري ديفي (إلَهة شعاع الشمس) في سياق البحث عن التقاليد الآرية الأصلية.على أي حال، كانت صاحبة هذا الهبل والتخبيص «الفكري» نازية متحمّسة، أيضاً. وقد آمنت بالزمن الدائري، وتصوّرت دوراً حاسماً لطراز فريد من الأفراد في تمثيل عصر بعينه، وتحقيق الانتقال من عصر إلى آخر.
فالرجل الذي يأتي «في الوقت المناسب» لا يعي دوره، بالضرورة، بل يمثل القوّة الدافعة، وتتجلى فيه سمات ما يسم عصره من تحلل وأنانية، وكلاهما يؤدي إلى الفوضى والعنف، ويسبب الكثير من الأذى.ولا ينبغي لنا لوم هؤلاء، بل ربما (وما زلنا في سياق تخبيص السيّدة الفرنسية) ينبغي أن نشكرهم على ما يؤدونه من خدمات تساعد على الانتقال من عصر إلى آخر، فكما أن الأرض التي تشتغل فيها النيران تزداد خصوبة، تبدو طاقة الإنسان التدميرية، إذا ما أطلقت من عقالها، وسيلة للهدم الذي يُمهّد السبيل للتجديد الاجتماعي والخلاص الروحي، وكلاهما يقرّب الإنسان من الزمن الذهبي الأوّل.
وأين موقع ترامب من الإعراب؟ يقول بانون الذي لا يبدو مطلاً بصورة كافية على «فلسفة» الأخت ديفي، وإن كان لا يقل عنها ميلاً إلى الدلالات الباطنية، والرسائل «الروحية»، والغامضة، إن ترامب يمارس دور «المُعطّل» و»الهادم». سأعود إلى دلالة هذا في معالجة لاحقة، للبحث عن دلالات «التعطيل» و»الهدم» في الظاهرة الترامبية منذ نجاح صاحبها في الوصول إلى البيت الأبيض.ويكفي، في الوقت الحاضر، القول إن أحداً في النواة الأيديولوجية الصلبة للدواعش، بما فيها صاحب مرافعة ذائعة الصيت بعنوان «إدارة التوحش» لن يجد صعوبة في اكتشاف القواسم المشتركة، رغم اختلاف اللغة، والمبررات، والغايات، بين مشروع زعزعة النظام القائم في العالمين العربي والإسلامي، وتفكيك المجتمع بالعنف الدموي كمقدمة للاستيلاء عليه، والعودة به إلى لحظة حلول المقدس في التاريخ، من ناحية، ومشروع تحرير الطاقة التدميرية للإنسان من عقالها لتقويض النظام القائم في الغرب الديمقراطي، الليبرالي، الرأسمالي، الاشتراكي، كائناً ما كان، كمقدمة للاستيلاء على المجتمع، والانتقال (أو العودة به) إلى الزمن الذهبي (يعني حلول المقدس في التاريخ) من ناحية ثانية. ولنا عودة.