شيء من تاريخ الجوع والمجاعات

شيء من تاريخ الجوع والمجاعات

شيء من تاريخ الجوع والمجاعات

 لبنان اليوم -

شيء من تاريخ الجوع والمجاعات

عبد الغني سلامة
بقلم - عبد الغني سلامة

في تاريخه الطويل، عرف الإنسانُ الجوعَ بأقسى معانيه، الجوع الذي يتحول إلى آلام مبرحة وعذاب مهين، الجوع الذي ينتهي بالموت، حيث يقضي الإنسان وأمامه زوجته وأولاده، يتضورون جوعا، فيهزلون، حتى تبرز عظامهم، وتذوي أجسادهم، فيتقدمونه في الموت، أو يلحقون به، في ميتات فظيعة.. الجوع الذي جعل الناس يفعلون ما لم يخطر ببالهم قط..
سنستعرض جانبا من أفظع المجاعات التي عرفتها البشرية.
في عهد عمر بن الخطاب، سنة 17 هجرية، أصابت الناس في المدينة وعموم الحجاز مجاعة مهلكة، دامت عاما كاملا، سمي عام الرمادة، حيث جفت العيون، ونضب الزرع، وكانت الرياح الصفراء تسف الوجوه، وتتركها كالحة كالرماد، فجاع الناس، ولم يبق عند أحدهم زاد، فأكلوا الحشائش وأوراق الشجر، والجرابيع والجرذان، وحتى الجيف.. ثم شاعت السرقات؛ حتى أن الفاروق امتنع عن إقامة حد السرقة ذلك العام، لكثرة السراق.
وصف «ابن كثير» في «البداية والنهاية»، أهوال المجاعة التي ضربت العراق وبلاد فارس سنة 449 هجرية، فكتب: «داهم بغداد وباء الطاعون، فمات أغلب الناس، حتى خلت الدور من ساكنيها، فسُدت الأبواب على أهلها الموتى، ولم يعد أحد يدفن ميتا، لكثرة الموتى، وخلت الأسواق، ومُنِعت السماء من قطرها، والأرض من نباتها، حتى ماتت الدواب، فتضور الناس جوعا، فأكلوا الجيف والنتن، حتى أنهم وجدوا مع امرأة فخذ كلب وقد اخضرّ، وشاهدوا رجلا يأكل طفلا ميتا، ومرة سقط طائر ميت من سقف حجرة فتلقفه خمسة رجال وأكلوه بريشه.. وبعد بغداد، انتقل الجوع والوباء إلى بخارى، فمات في يوم واحد 18 ألف إنسان، ثم امتد الأمر إلى البصرة والأهواز، فصارت الأسواق والطرقات خالية، والأبواب مقفلة، فمات في تلك المحنة ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان (بغض النظر عن دقة الرقم، إلا أنه يشير إلى حجم الكارثة)، ثم امتد الجوع إلى أذربيجان، ثم الأحواز وصار الناس يأكلون القطط والكلاب حتى انقضت كلها، واشترك في ذلك الأغنياء والفقراء، ثم صاروا ينبشون القبور ويخرجون الموتى ليأكلوهم، حتى صار الناس يخافون دفن موتاهم في النهار»..
ووصف «ابن الأثير»، في «الكامل في التاريخ» أسوأ مجاعة عرفتها مصر في تاريخها، عُرفت بالشدة المستنصرية (461 هجري)، حدثت في العهد الفاطمي حين انخفض مستوى النيل، وتدهورت الزراعة، فقام التجار بخزن الحبوب، وعمَّ الغلاء، وصارت البيضة بسعر فدان، وبعد أن جاع الناس أكلوا الحمير والدواب، ثم القطط والكلاب حتى انقرضت، ثم صاروا يأكلون الجيف، ثم صار الناس يعلقون الخطاطيف من أسطح منازلهم، فإذا مر أحدهم، علق بها، فيسحبونه لذبحه وشوائه، ثم صار أهل البيت يأكلون من مات منهم، وذات مرة سرق ثلاثة جياع بغلة الوزير، وأكلوها، فقبض عليهم، وأعدمهم، وعلق جثثهم في الشارع لإخافة الناس، فما كان منهم إلا أن أكلوا جثثهم المعلقة.. استمرت المجاعة سبع سنوات عجاف شداد.. تناقص عدد السكان إلى الثلث، ومن نجا، كان جلده يلامس عظمه من شدة الجوع، وشاع في الناس السلب والنهب والقتل.. إلى أن فاض النيل من جديد، وبدأت مصر تستعيد عافيتها ببطء. بيد أن المقريزي يقول إن سبب الغلاء الشديد، والمجاعة العظيمة، التي جعلت الناس يأكلون بعضهم بعضا، كان انحسار النيل أول سنتين، ثم صار بسبب خوف الزراع والتجار من النهاب وقطاع الطرق.
في المغرب ضربت البلاد عدة مجاعات قاسية جداً، أودت بحياة مئات الألوف من السكان، الأولى حدثت سنة 1721 ودامت سنتين، والثانية حدثت سنة 1737، ودامت أيضا سنتين، بسبب الصراعات السياسية وفساد السلطة، ترافقت مع سنوات جفاف، تركزت في «فاس»، التي لم يبق فيها سوى من مات جوعا، واللصوص الذين بالكاد يجدون ما يسرقونه لسد جوعهم.. والثالثة حدثت سنة 1742، وكان سببها الطاعون، ثم المجاعة الكبرى سنة 1774، ثم سنوات الجوع (1779 - 1782)، وتلتها ست مجاعات أخرى سميت مجاعات الكوارث، وسببها الكوليرا، والجراد، آخرها سنة 1944، عرفت بمجاعة البون.
في الحرب العالمية الأولى، حدثت مجاعة فظيعة في عموم بلاد الشام، وخاصة جبل لبنان، حيث صادر «جمال باشا» محاصيل المزارعين لتخصيصها للجيش التركي، كما قطع الأشجار للحصول على الحطب، ترافق ذلك مع غزو الجراد، نتج عن ذلك انتشار الكوليرا والتيفوس والموت جوعا، ما دفع الأهالي لبيع أراضيهم ثم ممتلكاتهم، حتى باعوا أثاث منازلهم، وفراشهم، ولما لم يجدوا ما يأكلونه، أكلوا النفايات، والقوارض، وصاروا يتبعون خيول الجيش التركي لينبشوا فضلاتها لعلهم يعثرون على بقايا شعير.. وصاروا هياكل عظمية فيها أثر حياة ضئيل، فهلكت قرى كثيرة، وهجرت أخرى، وماتت أعداد يصعب حصرها.
في القرن الخامس قبل الميلاد ضربت الهند مجاعات متتالية، وبعد أن كان عدد سكانها خمسين مليوناً، أصبحوا بعد قرن واحد ربع هذا العدد فقط. وفي الهند أيضاً في القرن الثامن عشر مات في المجاعات نحو 10 ملايين إنسان.
في المجاعات التي اجتاحت الصين خلال القرن التاسع عشر مات نحو مائة مليون شخص، وفي المجاعتين الأخيرتين (1958 و1968) كان الأهالي يخصصون النزر القليل من الطعام الشحيح للذكر الأكبر، فيما يموت إخوته وشقيقاته أمام العائلة، وهم يئنون جوعا، ولا يجد أحدهم كسرة خبز، أو حبة أرز يأكلها.. حتى مات عشرات الملايين.
في روسيا حدثت مجاعة «الفولجا» الكبرى سنة 1921، والتي أودت بحياة خمسة ملايين إنسان، وقد امتنعت حينها عصبة الأمم عن تقديم الإغاثة رداً على قيام الحكم الشيوعي، وتكررت المجاعة مرة ثانية في أوكرانيا في الثلاثينيات وتسببت بموت الملايين.. وقد اضطر بعض الأهالي لأكل أطفالهم، أو بيع جثثهم لجياع آخرين.
وفي إيرلندا حدثت مجاعة «البطاطا» الفظيعة، والتي أودت بحياة مليون شخص في الأعوام 1845 - 1852، وأجبرت مليونين آخرين على الفرار إلى العالم الجديد..
وفي البرازيل حدثت مجاعة بسبب الجفاف والوباء سنة 1877، قتلت نصف السكان..
وفي أثيوبيا والسودان والصومال والساحل الإفريقي حدثت مجاعات عديدة، أودت بحياة ما لا يمكن إحصاؤه من البشر..
وبالتأكيد، حدثت مجاعات أخرى، في مناطق عديدة في العالم، بعضها موثق، وبعضها طواها النسيان.. وإذا كنتم تظنون أن المجاعات مجرد إرث إنساني ثقيل، يجدر أن نعرف أن الجوع، وسوء التغذية ما زالا يقتلان 25 ألف إنسان يوميا فيما يسمى دول الجنوب.
 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شيء من تاريخ الجوع والمجاعات شيء من تاريخ الجوع والمجاعات



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم

GMT 09:49 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

يحاول أحد الزملاء أن يوقعك في مؤامرة خطيرة

GMT 13:56 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 13:06 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 12:37 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

ابرز الأحداث اليوميّة

GMT 15:17 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

يحمل هذا اليوم آفاقاً واسعة من الحب والأزدهار

GMT 16:49 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 11:57 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

لا تكن لجوجاً في بعض الأمور

GMT 14:59 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

عليك أن تتجنب الأنانية في التعامل مع الآخرين

GMT 15:32 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:53 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

سعد الحريري يتوقع تشكيل حكومته الجديدة مساء الجمعة

GMT 10:29 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمبانزي قادرة على تقييم المخاطر وتحذير أقرانها

GMT 20:51 2019 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

طائرة الجزائر يواجه الكاميرون في الالعاب الأوليمبية 2020
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon